عن مذكرات كازانوفا

ثقافة 2022/06/01
...

  كاظم حسوني
في كتاب ستيفان زفايج عن (جاكومو كازانوفا) لم يحد عن منهجه، فهو يتناوله درسا وتحليلا وسبرا للأغوار بغية تقديم صورة مفصلة لهذه الشخصية المغامرة، الفريدة، ذائعة الصيت.
 
(إلا فما أغرب هذا الرجل وأغرب منه حكاية انبعاثه فجأة من اعماق النصف الثاني للقرن الثامن عشر بعد أعوام طويلة من موته، اذ كان نسيا منسيا)، ففي الثالث عشر من كانون الاول عام 1820 تلقى الناشر بروخاس رسالة من رجل يسأله فيها عن مدى استعداده لنشر كتاب بعنوان (سيرة حياتي حتى عام 1797)، بقلم سيد مجهول يدعى كازانوفا، فطلب الناشر أن يرسل إليه المخطوط، وفور قراءته كان إعجابه عظيما وحماسته أعظم، اذ وجد فيه عملاً أدبياً، لعله من أروع مخطوطات القرن الثامن عشر وللتو قام بنشره، ولم تتأخر دور النشر في تلقفه وسرعان ما ترجم إلى الفرنسية والالمانية، وفي مدة وجيزة لقي نجاحا هائلا وراح يعبر البلدان والمدن، وأخذت تعاد ترجمته بلغات عدة، وقد عاد حيا إلى الحياة قاهرا الموت والنسيان، واذا كان كازانوفا نفسه لم يكن يتصور يوما على نحو جاد ان تنشر مذكراته الرهيبة الفظيعة، ها هو العجوز المصاب بالنقرس يعترف منذ سبع سنين وأنا لا أقوم الا بكتابة مذكراتي، مع أني نادم أشد الندم على أني بدأت بها، ولكني ليس لي أمل في أن ترى النور، ذلك أن الرقابة الشريرة عدوة الفكر لن تسمح بنشرها إضف إلى ذلك أني كنت في مرضي الأخير، أتمنى أن اثوب إلى رشدي فأشهد إحراقها على مرأى مني.
ويضيف زفايج أن من حسن الحظ انه لم يثب إلى رشده فنجت المذكرات من الحرق، عائدا إلى الانكباب على العمل بها كل يوم وهو يروي سيرته الصاخبة بكل عفوية ودون تحفظ ومراعاة للأعراف والتقاليد تسعفه ذاكرة حادة لم تهمل وصف كل ما رآه وعاشه من حياة غنية مثيرة خطيرة وصفيقة، تغص بالمتع واللذائذ، حيث لجأ العجوز إلى الكتابة عندما نبذه الناس وراحت النساء تسخر منه، وصار منبوذا عاجزا متهرئا، فوجد في الكتابة عوضا عن حياته الماضية وسلاحا ضد السأم، وعلاجا لتبديد وحشته المضنية. ويرى زفايج أن أعجب ما فيها تلك الغزارة المذهلة من جنود وأمراء بابوات وملوك، قطاع طرق ومحتالين، غشاشين وتجار وكتاب عدل، وفلاسفة، أنه معرض بشري جذاب آسر لا أغنى ولا أغزر منه، جمعه كازانوفا وحشده بين دفتي كتاب واحد، يضيف المؤلف وانها لمفارقة عجيبة ان مشاهير الشعراء من معاصري كازانوفا من امثال (ميتاتياس) الموهوب و(باريني) النبيل وغيرهما من فرسان الشعر وقد طواهم غبار الكتب، بينما أصبح كازانوفا رمزا شائعا وفنانا شهيرا أفرزه عصر النهضة، معللا ذلك إلى أن ما يضطر أحد الشعراء إلى اختراعه وتخيله قد عاشه كازانوفا بكل جوارحه.
وأن ما يصف لنا أحد الأدباء من بنات افكاره قد عاشه كازانوفا بجسده المتأجج شبقا، وباتت مذكراته تمثل حالة فريدة ومنجما ثرّاً تغري بغناها وتلهم الكتاب والمؤلفين، وأن مئات الروايات والمسرحيات، مدينة لمذكراته بأفضل شخصياتها ومواقفها، لقد شهد كازانوفا العصر الذهبي للنهضة على مدى اكثر من ربع قرن، بدءا من حرب السنوات السبع إلى الثورة الفرنسية، رأى هذا الايطالي جواب الافاق الذي لا ارض له ولا وطن مكنته الثورة الفرنسية التي أزالت مظاهر البذخ والترف بين عامي
1797 - 1798، وأطاحت برؤوس الملك والملكة والأمراء والقادة بشفرة المقصلة وكانت امه بوراتيلا مغنية مشهورة على مسارح الاوبرا في أرجاء أوروبا، بينما كان أبوه ممثلا كوميديا بائسا، اما أخوه فرانسسكو فيرد اسمه في تاريخ الفن.
يقول زفايج إن كازانوفا على الرغم من طيشه وعبثه وطبيعته اللاهية استطاع أن يتعلم بفضل ذكائه اللاتينية واليونانية والفرنسية والعبرية والاسبانية والانكليزية، كما عمل في السادسة عشرة من عمره عازفا على الكمان في المسارح، والحق أنه اتصف بتعدد المواهب، لكن أيا منها لم يبلغ النضج والاكتمال، فهو شاعر لكنه ليس شاعرا مبدعا، وهو لص لكنه ليس لصا محترفا، وأنه أبدع في الرياضيات وأجاد في الفلسفة، الا أنه لم يتعمق ولم يحول اهتمامه لهما، وقد سنحت له عشرات الفرص بأن يشغل المناصب العالية والاعمال الشريفة لكنه لم يستجب لاغراضها فهي لا تلائم مزاجه المتشرد وطبيعته المغامرة، وان ما يذهل حقا ان كثرة مواهبه كان يبذرها ويبددها طوعا مفضلا الحرية والتشرد على العيش المستقر الرتيب، ها هو ذا يقول (لقد كرهت دائما تلك الحياة العاقلة الرشيدة التي تخالف 
فطرتي).. اذ كانت مهنته أن لا تكون له مهنة ويعبر زفايج ان متعته الحقة هي في التسلي على حساب الاغنياء ويحتال على المغرورين المزهوين ويسرق المغفلين ويريح البخلاء من عبء اموالهم ويخدع الازواج على حساب زوجاتهم، أن الخداع لديه ليس فنا، فحسب بل هو التزام أخلاقي رفيع يمارسه بضمير مطمئن وعفوية لا مثيل لها، جاء في التقرير السري للشرطة في البندقية عام 1955 قيل عن كازانوفا انه من رجال الادب ولكن عقله لا يشغله الا التفكير في المؤامرات وقيل عنه إنه زار فرنسا وأنكلترا وأنه قام بسلب النبلاء والسيدات اموالا طائلة بطريقة غير مشروعة وكان يعيش دائمآ من خداع الاخرين والمكر بهم وحينما تتعرف إلى كازانوفا عن كثب تلمس لديه مجموعة من المثالب الرهيبة أهمها الالحاد والكذب مضافا اليهما الفسق 
والفجور.
هكذا يصف زفايج كازانوفا بأنه كان عابر سبيل يعيش حياته ساعة فساعة خفيفا فارغ القلب دائم التبدل فلا يمكن الوصول إلى تحديد كنه طبيعته وشخصيته، اشرير هو ام خير؟
أصادق هو ام كاذب؟
أبطل هو ام لص محتال؟
انه كل ذلك يلبس لكل حالة لبوسها ربما لا يمكننا أن نحمل كازانوفا تبعة أفعاله، لأنه مسوق في كل ما يفعل بدمه ومزاجه وهو يقف أمام أزماته النفسية الجياشة العفوية اليك ما يقوله (لم اعرف طوال حياتي كيف اتحكم بأهوائي.. ولن أعرف ذلك أبدا) ذلك أن هذا الرجل المحب لكل شيء ليس الا طفلا ازليا لا يعرف للهم طعماـ فهو يريد أن يستأثر بجميع الألعاب ويستمتع بكل المتع ويمتلك كل النساء ويستلب أموال الاغنياء .