ا.د. عامر حسن فياض
لعل من المشكلات التي تعاني منها بعض الدراسات الغربية للفكر السياسي في المجتمعات الشرقية القديمة والوسيطة، أن بعض من اعترف بوجود هذا الفكر من الدارسين الغربيين، درج على استخدام مصطلح (الطغيان/ الاستبداد الشرقي)، لوصف الواقع الاقتصادي الاجتماعي للسلطة السياسية في هذه المجتمعات، بأنه (نمط انتاجي عبودي شرقي) أحيانا و(نمط انتاجي إقطاعي شرقي) أحيانا اخرى، وفي أحيان ثالثة (نمط استبدادي شرقي)،
تأسيسا على التقديرات الذاتية لهؤلاء الباحثين بشأن الخصائص الأساسية، المميزة لنمط الانتاج في المجتمعات الشرقية والذي يبدو في رأيهم مختلفا عن أنماط الإنتاج الاقتصادي – الاجتماعي السائد في المجتمعات الغربية المعاصرة لها، والموصوفة بأنها أنماط إنتاج عبودية ثم في ما بعد اقطاعية.
ولكن روح التحيز والسلبية الكامنتين في مصطلح (الطغيان الشرقي) يجب ألا تدفع إلى تبني روح مضادة، فلا بدَّ من الإقرار بأن الخصائص، التي يفترض مفهوم الاستبداد/ الطغيان الشرقي وجودها في الأنظمة السياسية الشرقية موجودة فيها فعلا.
اذ كانت هذه الانظمة تمتلك سلطة مطلقة، او شبه مطلقة، مركزية فردية شخصية مقدسة.
حيث تتجسد كل إرادة سياسية وممارسة سلطوية فيها وتتركز، بشكل مادي ومباشر وشخصي، في الفرد الحاكم/ العاهل المقدس بما يؤهله للقيام بوظائف مركبة.
يجمع فيها بين الوظيفة السياسية ووظيفتين أخريين، إحداهما دينية والأخرى اقتصادية.
فإلى جانب سلطته السياسية، يمارس العاهل أيضا السلطة الدينية بوصفه الإله أو ابن الإله، أو على الأقل كاهن الإله.
فقد أعلن الفرعون اخناتون في مصر القديمة نفسه الابن الوحيد للاله الواحد اتون، وأعلن سرجون الأكدي في العراق القديم أنه ابن الاله، وأصبحت ألقابهم الملكية مسبوقة بألقاب اخرى تدل على إلوهيتهم.
باجتماع هذه الوظائف والسلطة اللازمة لممارستها في شخص (الحاكم/ العاهل/ الملك/ الفرعون/ الامبراطور) بوصفه مركز السلطة وتجسيدها ومحتكرها في مجتمعات الحضارات الشرقية القديمة، فقد اكتسبت سلطته خصائص او سمات (الفردية-المركزية- المطلقية- الاستبدادية- الشخصانية-القدسية الدينية).
وتأسيسا على ما سبق. فإن العقلية السائدة في المجتمعات الشرقية، وهي بالتأكيد ليست الوحيدة في ذلك، تتميز بميلها إلى الدمج بين الدين والسحر والعلم، وغلبة عقلية المجتمع الزراعي على المعتقدات والقيم السائدة، مثلما تغلب عليها فكرة الاستمرارية والاستقرار والثبات عبر التغيرات الموسمية المنتظمة وعلى الرغم منها، ولهذه العقلية بعدان: البعد الأول: هو الثقة في الموروث الاجتماعي وقيمة وتقاليده وبقدرة المجتمعات المالكة له على استيعاب التغيرات والاحداث الطارئة، وفي مقدمتها موجات الغزو الاجنبي التي استوعبتها واحتوتها ووضعت خاتمها عليها، ليصبح غزاة الصين أو الهند وبلاد الرافدين ووادي النيل في النهاية صينيين أو هنودا أو بابليين أو آشوريين أو مصريين.
البعد الثاني: هو الإيمان بالوحدة الشاملة التي تجمع العناصر المتباعدة او المنفصلة في الحياة، والتي أساسا تعايش ووحدة الأوجه والعناصر المتعددة والمختلفة في اطار هذه التجمعات، سياسيا وقانونيا ودينيا واجتماعيا، وتنعكس فكرة الوحدة نظريا في مفهومين يتكرران في معتقدات الشرق الفلسفية وأعماله ونتاجاته الفكرية:
- مفهوم التدخل الذي يحمل السلطة السياسية مسؤولية إقامة العدل، وإنصاف الناس وتطبيق الشرائع والقوانين، وهو ما يعني غياب أية مسؤولية مقابلة للشعب في هذا الشأن.
- مفهوم التقابل المباشر بين السلطة والرعية، فطبيعة المجتمع الشرقي تجعل الرعية في مواجهة الراعي/ الحاكم مباشرة، فيتحول الإله إلى حامي النظام الاجتماعي، ويتحول الملك إلى إله أو ممثل للإله، توضع بين يديه مفاتيح الحياة والخصوبة والثروة.
وعن الخصائص المشتركة بين الحضارات الشرقية القديمة نسجل اثنين من أبرز الخصائص هي:
1 - هيمنة العقائد الدينية بروحها ومنطقها على العقل الشرقي القديم والإسلامي الوسيط ونتاجاته الفكرية، حيث اتخذ تاريخ هذا العقل ومجتمعاته صورة تاريخ أديان وعقائد غيبية، وموضوعات تدور حولها وفي اطارها.
وانعكس ذلك على نتاجات الفكر الشرقي، بما في ذلك السياسية منها، فجاءت مستندة إلى الأفكار الدينية، متوارية خلف عقائدها، متماهية فيها، حتى غدا الاستقلال الديني عن الدنيوي فيها، السياسي عن غير السياسي، أمرا متعذرا نظريا وعلميا.
وكما يقول المفكر الفرنسي (جوزف هورس 1896- 1963م) في كتابه (قيمة التاريخ)، فأن معرفة ماضي الشرق ومعنى تحركه التاريخي، وحتى انشائه القصصي، بقي مشربا بروح
الدين.
2 - قطيعة الفكر السياسي الشرقي القديم الكلية، والاسلامي الوسيط الجزئية، معرفيا ونظميا مع كل ما تلاه من الافكار والنظم السياسية في النطاق الحضاري الشرقي والاسلامي.
اذ لم يقدر لذلك الفكر ونظمه السياسية، الاستمرار في حضورهما الاجتماعي او مواصلة تأثيرهما البنيوي بعد ان عجز عن التأسيس لما جاء بعدهما من افكار ونظم سياسية.