أحمد عبد الحسين
في دهوك؛ قبل عدّة سنوات، جلسنا أنا وزميل لي أمام الكاتبة والمفكرة الألمانية "إنكا باخ ـ Inka Bach" نحاورها، فجأة لا أدري ما الذي دار في رأس زميلي ليغيّر سياق الحوار ويصرخ بانكليزية مهلهلة لكنْ مفهومة للأسف: "تعرفين؟ أنا أحبّ هتلر. صحيح أنه ديكتاتور لكنه على الأقل يحب وطنه!".
خيّم على الغرفة وجوم بشع، صارت الطاولة التي تفصلنا خندقاً واكتسى وجه ضيفتنا بمزيج من الصدمة والاشمئزاز والاحتقار.
فكرتُ بعدها بما تختزنه ذاكرة "باخ" من أهوال وآلام جرتْ لها ولعائلتها ولشعبها عموماً بسبب هتلر، وكانت تلك الأيام، ايامَ الافتتان العربيّ بشوارب صدام ورجولته وحبّه للعراق، ولم يكنْ بدٌّ من إجراء مقارنة بين الموقفين.
كانت الفضيحة تحوم في الغرفة وهي تتلخص بالتالي: أنا أحبّ الألم والمعاناة والاضطهاد، لكنْ بشرط أن تكون موجهة لكِ أنتِ وليس لي. أحب أن أرى شعبكِ يعاني ويتعرض للعسف والتنكيل، لأني معجب بهذا الديكتاتور وأراه وطنياً محباً لشعبه.
في الأمر نقصُ ضمير، لكنْ نقصُ خيالٍ أيضاً "أؤمن أنّ كلّ ما هو إنسانيّ يتعلّق بالخيال أولاً وآخراً". ليس لدينا خيال خلّاق يمكّننا من وضع أنفسنا في موضع الإنسان المضطهد الموجوع لنختبر وجعه. بدلاً من ذلك نتقدّم بفكرتنا الجاهزة التي لا نشكّ فيها أبداً ونسحق مَنْ يقف أمامنا ونهينه حين نخبره بهدوء أنك بكل عذابك تافه أمام فكرتنا الحقة.
فعلَ العربُ معنا هذا طوال سنوات حين كانوا يقولون "قد يكون صدام ديكتاتوراً لكنه وطنيّ" ولاحقاً سيقارنون بين ضعف العراق اليوم وفساده وبين "فردوس" زنازين البعث. وكانت هذه الكلمات تأتي من ليبيّ أو سوريّ أو جزائريّ يرفض ديكتاتوريته الخاصة، لكنه يستسيغها لغيره.
نحن أيضاً نفعل ذلك يومياً وبتلقائية عجيبة. نتقدّم بفكرتنا الحقّة عمّا يجب أن تكون عليه سوريا أو اليمن أو إيران، نتقدّم بها بوثوقية تامّة من دون أن تكون لدينا كِسرة خيالٍ ضئيلة نقدر أن نكون بها سوريين أو يمنيين أو إيرانيين للحظة واحدة ونرى الأهوال والآلام الشخصية التي سحقناها في طريقنا، ونبصر الذات الإنسانية التي نكّلنا بها ومرغناها في الوحل.
كم احتقرنا شعوباً في سبيل فكرتنا القائمة في أغلب الأحيان على طائفية مريضة مع نقصِ ضميرٍ وفقرِ دمٍ في الخيال.