أحمد عبد الحسين
نَكره التنظير ونزدريه، ونسمّي مُنظِّراً ذلك الذي يكتب أو يقول ما لا نفهم، إلى الحدّ الذي بات فيه لفظ التنظير اسماً آخر لما لا لزوم له من الكلام وما لا نفع فيه. وترسّبَ في قرارة وعينا «أعني المتعلمين كما الأقلّ تعليماً» أنّ المعيار الذي يفرق بين التنظير وسواه هو كون الكلام مفيداً أو غير مفيدٍ. ومعلومٌ أن التنظير هو غير المفيد هنا.
أظنّ أن في الأمر خدعة. لأنّ معيار الفائدة زائف ومضلل، فالذين يطلبون النافع من القول لا يطلبونه باسمهم الشخصيّ بل باسم مجموع ما، باسم جماعةٍ “طائفة أو دين أو عشيرة أو قومية أو حزبٍ” والجماعة تسالمتْ على أنّ هذا مفيد ونافع وذلك سقطٌ من القول ومحض ثرثرة. ولذا فإنّ أولى سمات “التنظير” هو أن يكون نتاج فردٍ، منطلقاً من فردٍ واحد بقراءة خاصة به غير ناطقة باسم هويّة.
نحن نكره الفردانية. هذا هو السبب الحقيقيّ لازدرائنا التنظير. والسخرية التي نجابه بها “المنظّرين” هي السياج الذي نضعه من أجل تقليص حريّة الفرد في تفكيره وتعبيره. فنحن لا نفكّر إلا على شكل مجموعة، ولا نتكلّم إلا باسم مجموعة ولا نخاطب إلا مجموعة. حتى أولئك الذين يرفعون شعار الحريّة الفردية عندنا، كنخبة المثقفين أو نخبة المحتجين مثلاً، ينتهي بهم الأمر دائماً إلى تكوين حشدٍ بهويّة واحدة ومسلّمات يقينية وصندوق للأفكار هو البنك المركزي الرسميّ والحصريّ للتفكير النافع. وأيّة فكرة تأتي من خارج هذا الصندوق سيجري التعاطي معها بوصفها هجينة وستقابَل بالسخرية أو أكثر؛ بعدوانية المجموع لا بنقد الأفراد، والمجموع “حتى مجموع النخبة” غير عاقلٍ فهو لا يتدبّرُ ولا يتأملُ ولا يفكّر، لأن التأمل والتدبّر سمة خاصة بالأفراد.
لهذا لا تقول الأحزاب والتيارات عندنا شيئاً عميقاً ولا تنتج فكراً، بل يقضي محللوها السياسيون أعمارهم في جهدٍ إنكاريّ تبريريّ موجّه إلى عصبتهم، وجهدٍ آخر عدوانيّ عنيف ساخرٍ موجّه إلى مخالفيهم. ولهذا أيضاً لم ينتج الاحتجاجُ ورموزُه مدوّنات راكزة يمكن أن يُبنى عليها خطاب حيّ، لأنهم انشغلوا بالهويّة الجامعة ضدّ هويات الآخرين ولم يستطع أحد منهم التفكير خارج الصندوق الذي تسمح به أخلاقيات وأعراف الهويّة.
محنتنا أن نمط تفكيرنا هذا جعلنا نكافح العصبيات بخلق عصبيات مضادّة، ننقد النواة الصلبة للطائفة والعشيرة ومنظومة الفساد بخلق نواة صلبة للاحتجاج أو للثقافة ونسيّجها بسياج من المسلمات اليقينية، وننقد التديّن الشعبويّ بتديّن علمانيّ أشدّ شعبوية، ونستمع لنصيحة عمر بن كلثوم ونطبّقها فنجهل فوق جهل الجاهلين.
المعرفة العمومية مختلطة بالجهل أبداً. والتنظير الذي نحتقره ونزدريه هو أحوج ما نحتاجه الآن للتفكير خارج الهويّات الموروثة أو المستحدثة.