الهند.. من الفيدات إلى الملاحم

آراء 2022/06/14
...

 أ.د. عامر حسن فياض
تتلخص أبرز سمات الحضارة الهندية وملامحها المميزة في مقولة ((وحدة التنوع أو التنوع في إطار الوحدة))، حيث امتدت البيئة الطبيعية الجغرافية لهذه الحضارة على مساحات مترامية الأطراف، متسعة الأبعاد شملت شبه القارة الهندية بأكملها، فضلا عن أجزاء مما جاورها من أقاليم، لتضم بذلك أقاليم متنوعة التضاريس، مختلفة المناخات، متعددة الأجناس واللغات والثقافات والمعتقدات
 
وانعكس هذا التنوع في إطار الوحدة على طبيعة النتاج الفكري للحضارة الهندية القديمة عموماً، والركن السياسي منه على وجه الدقة والتحديد، فللهند تراث غني من الأفكار، وإرث طائل من الرؤى والتأملات العقلية في شتى القضايا والموضوعات، وليس ذلك بالأمر المستغرب من مجتمع يقدر عمر الحضارة فيه بعشرات القرون لا بالعقود أو السنين. ويتخذ الإقليم الهندي شكل شبه قارة فسيحة الأرجاء، تبلغ مساحتها حوالي مليون ميل مربع، دون أن يمنع باتصال أجزائها أو يعيقه اتساعها وتباعد مسافاتها، فهيمنت عليها روح حضارية واحدة على تنوع الخصائص الجغرافية المناخية لأقاليمها، وتعدد شعوبها، وتباين ثقافاتها واختلاف عقائدها ومرجعياتها القيمية، حتى تعددت مراحل تطورها التاريخي الحضاري المنعكسة في تتابع مدنياتها من (موهنجو دارو) عام (2900ق.م) وحتى غاندي ورامان وطاغور.
وساد الحضارة الهندية دستور عرفي، سمح بتعايش الاختلافات واجتماع التناقضات في فضاء حضاري، تميزه وحدة روحه الثقافية- الحضارية فكان ذلك أنموذجا مبكراً للروح الديمقراطية وتطبيقاتها، يصعب على الباحث أن يتلمس أصوله المبكرة وجذوره الأولى، ولكنه يستطيع ملاحظة دلائله المتجسدة في تعايش عقائد دينية تتراوح معتقداتها بين أدنى صور الوثنية وأكثرها مادية 
وتجسيداً. 
وأرقى أشكال التوحيد وأكثرها روحانية وتجريداً، وما عزفه فلاسفتها من أنغام مختلفة على وتر التوحيد بادئين بأسفار (اليوبانشاد) في القرن (8 ق.م)، وحتى (شانكار) في القرن الميلادي الثامن، وحكامها الخيرين مثل (أشوكا وأكبر)، ممن لم يعد بالإمكان تمييز الأسطوري من الحقيقي من أخبارهم، وتلك هي الهند، التي سنحاول متابعة تأملاتها الفكرية بشأن ظاهرة السلطة السياسية عبر متابعة المراحل الخمس للتطور الفكري لحضارتها وهي (الفيدية – الملحمية – السوترا- الشروح العظمى- النهضة).
و(فيدا) كلمة سنسكريتية تعني (المعرفة)، أي إن أسفار الفيدا التي نستمد منها جّل ما نعلمه عن الهند في مراحلها المبكرة تعني (كتب المعرفة)، ويطلق الهندوس اسم (الفيدات) على تراثهم المقدس الذي ورثوه عن تاريخهم الأول، والمقصود بهذا الاسم أقدم الكتب الهندوسية المقدسة والمعروفة أيضا باسم آخر هو (اليوبانشاد) (يوبا/ بالقرب، نشاد/يجلس)، ومعناه (الجلوس قرب المعلم)، والتي تضم نصوصاً ذات طابع فلسفي ديني مقدس تمثل ذروة التأمل الفكري الفلسفي الهندي القديم. ولكن معنى اليوبانشاد تغير فأصبح يطلق على المذهب الغامض، أو السر الذي يفضي به المعلم إلى خيرة تلامذته وأحبهم إليه. وتضم أسفار (الفيدا) مئة وثماني محاورات، جرت بين المعلم وتلاميذه، وشارك في تأليف هذه المحاورات كثير من المعلمين/ الحكماء بين أعوام (1800-500) ق.م، وهي لا تحتوي على مذهب فلسفي موحد ومنسق العناصر والأجزاء، بل تجتمع فيها أراء وأفكار ودروس كانت قضايا الدين والفلسفة عند واضعيها ذات مضمون واحد وشكل واحد، ما جعلها مليئة بالمتناقضات والآراء السطحية المفتقرة إلى الموضوعية. وانصبت اهتمامات مرحلة الفيدا الفكرية على البحث عن أجوبة لأسئلة تدور حول ماهية الخلق؟ ماهية الخالق؟ ماهية الريح ومصدرها وأسباب هبوبها؟ ماهية الشمس ومن وضعها في السماء ولماذا؟ وكانت إجابات هذه الأسئلة تقود في النهاية إلى الآلهة في إطار منطق غيبي ميتافيزيقي فرض طابعه على اغلب مكونات الفكر القديم ومفرداته التفصيلية. ولم يبق من إسفار الفيدا/ الاوبانشاد إلا أربعة أسفار، يمكن أن يتيح لنا الاطلاع على تفاصيلها معرفة أفضل بطبيعتها العامة وما انطوت عليه من عقائد وأفكار، وهذه الأسفار هي:
- سفر ريج فيدا: ويضم أناشيد وترانيم تثنى على الآلهة وتمجدها وتسبحها.
- سفر ساما فيدا: ويضم ترانيم تصاحب طقوس تقديم الأضاحي والقرابين للآلهة.
- سفر باجور فيدا: ويضم نصوصاً إضافية تناسب القرابين للإلهة.
- سفر اثارفا فيدا: وتضم نصوصاً تتعلق بالتعاويذ والرقّي السحرية.
يمثل المرحلة الملحمية (500-400) ق.م ويعبر عنها ويعكسها أدب شعبي، تضمن كما كبيرا من القصائد والنصوص النثرية يتوزع بين مجموعتين:
الأولى: ملحمة المهابهارتا: وهي نص ملحمي طويل، تمت ترجمته في (13) مجلداً، تحكى أحداثها قصة ارض الهند، وتوضح طبيعة الإنسان والكون، وتتضمن إرشادات حياتية سلوكية ونفسية ذات أبعاد مختلفة دينية وفلسفية واجتماعية وسياسية وكذلك 
طبية.
الثانية: ملحمة الرامايانا: وهي نص ملحمي طويل يقع في أربعة مجلدات، ويقدم المثل العليا للرجولة والأنوثة مجسدة في حياة زوج وزوجته، وتصور النظام المثالي للمجتمع بأسره، والتنظيم المثالي للحياة الفردية. وشهدت هذه المرحلة أيضا تأليف رسائل عن القيم كالعدالة والاستقامة، وأخرى توضح كيفية ضمان نظام المجتمع واستقراره على يد الملك ومؤسسات الحكم المختلفة.