الفلسفة من المعرفة إلى العرفان

آراء 2022/06/15
...

 علي المرهج
كل مهتم بالدرس الفلسفي يعرف أن هناك مبحثا مهما من مباحث الفلسفة هو مبحث (نظرية المعرفة)، وهو يهتم بدراسة مصادر المعرفة، هل هي العقل أم الحس، أم الحدس؟، وهناك مدارس مختلفة تعتمد أحد هذه المصادر، بوصفه أس المعرفة وأداتها، ولذلك نجدها تُسمى باسمه، مثل: المدرسة العقلية لأن فلاسفتنا يعتقدون أن مصدر المعرفة الأساس هو العقل، وهناك المدرسة الحسيَّة التي يعتقد أصحابها أن مصدر المعرفة هو الحس، وكذا الحال مع الحدس، فهناك فلاسفة يعتقدون أن مصدر المعرفة اليقينية هو الحدس، فسميت بالمدرسة الحدسيَّة.
تهتم نظرية المعرفة بدراسة طبيعة المعرفة  وإمكانها، وهل المعرفة ممكنة وباستطاعتنا الوصول لليقين؟، ولا أخوض في الفرق بين نظرية المعرفة والأبستيمولوجيا، فقد كُتب عنه الشيء الكثير، ولكن ما يهمني هو موقع الفلسفة بالقياس للمعرفة، وهل كل معرفة فلسفة؟ أو أن كل فلسفة معرفة؟، وعلاقة الفلسفة بالعرفان.
في ما يتعلق بالتساؤل الأول: هل كل معرفة هي فلسفة؟، إن اعتقدنا بهذا القول يعني أننا نُجيّر المعرفة لصالح الفلسفة بوصفها أم العلوم، كما قيل من قبل، وقد تتداخل الفلسفة مع الأدب، فيكون عندنا الأدب الفلسفي، أو الفلسفة الأدبية، وهناك أمثلة كثيرة على هذين القسمين لا مجال للتفصيل فيها، ولكن بإيجاز، هناك أديب فيلسوف، مثل أبي العلاء المعري، وهذا شكل من أشكال الأدب الفلسفي، وقد يصح الوصف على كتابات شكبير ومسرحياته، كما يصح على الشاعر (هلدرلين)، وهناك فلسفة ذات منحى أدبي، وهذا ينطبق على قصة حي بن يقظان لابن طفيل، وقد يصح على جمهورية أفلاطون من قبل وما كتبه ابن سينا والسهروردي وغيرهم.
في الفلسفة الحديثة ظهرت لنا الفلسفة بوصفها شكلا من أشكال المعرفة، وقد حدد مبحث نظرية المعرفة عدة مذاهب فلسفية: العقليون والتجريبيون، ومن ثم الفلسفة النقدية عند (كانت)، ورد أصحاب المذهب الحدسي عليهم، والذين ارتطبت عندهم الفلسفة بالمعرفة المباشرة من دون الاعتماد على وسائط استنتاجية مثل العقل أو الحس، وقد فسرها لنا الغزالي بقوله عن المعرفة الحدسية بأنها “نور يقذفه الله في الصدر”.
لا ينكر الحدسيون أو دعاة المعرفة العرفانية أو الصوفية ما للمعرفتين الحسية والعقلية من دور في فهم العالم والحياة، ولكنهم يحدونها في معرفة الوقائع والعالم الطبيعي، أما ما ندركه من كنه الأشياء والنفوس وعوالم الميتافيزيقا، فإنما هو هبة سماوية تكتمل المعرفة بالعرفان، بمعنى استغراق الذات العارفة بكل قواها في موضوع المعرفة، كما يقول القشيري، لذلك هي تجربة ذوقية فردية لا يعتمد البرهان العقلي الفلسفي ببعده المنطقي، ولا الحجاج الكلامي ببعده التشبيهي أو (المغالطي)، لأن العرفانيين يعتقدون بعجز العقل عن إدراك اليقين، لأن المعرفة العقلية بتعبير (برجسون) هي معرفة (تبعيضية)، أي أنها تشبه شريط السينما الذي تراه متحركًا، ولكنه مجموعة لقطات ساكنة أخذت في لحظة ما للقطة ما، وقد يكون الحال في ما بعدها قد تغير، على قاعدة هيرقليطس (أنك لا تنزل النهر مرتين)، لأنك في اللحظة التي نزلت فيها، قد تغير الماء، وهو ليس ذاته الماء لحظة نزولك.
يتجاوز العرفان المعرفة الفلسفيَّة، التي ينزع دعاتها للبرهنة على وجود العالم وفق بنية استدلالية برهانية عقلية، أو بنية استقرائية حسية لإدارك كُنه
 الوجود.
الوجود عند أهل العرفان يطوي التدرج في المعرفة ليرتقي لمدارج السالكين منازل إياك نعبد وإياك نستعين بتعبير (ابن قيم الجوزية)، الذي فصل مراتب المعرفة ليصل فيها لمرتبة الإلهام.
قد يُميز البعض بين التصوف والعرفان، على أن التصوف مدرسة يُسلم أصحابها بالمعرفة النقلية، بينما العرفان هو الأقرب للفلسفة الحكمية أو الحكمة الإلهية، لأن مدرسة العرفان كانت الأقرب للفلسفة السينوية في البرهنة على أهمية المعرفة العرفانية بطابعها الكشفي القلبي للبرهنة عليها فلسفيًا، بمعنى (عقلنة العرفان) بتعبير (حيدر حب الله)، ومحاولته قراءة النزعة العرفانية خارج بعدها الذاتي، بوصفها تذوقًا فردانيًا، وجعل العقل فيها هو الحكم، ولكن المشكل أن الأمر يبقى في قراءة التجربة العرفانية مرهونًا بأصحابها، أما الخارجون عنها، فمن الصعب لهم التثبت والتحقق من صدقها، لذلك أكد فلاسفة الوضعية المنطقيَّة أن مثل هكذا قضايا لا يمكن التحقق من صدقها أو كذبها، فهي قضايا لا معنى لها، ولم يجزموا أنها قضايا صادقة أو كاذبة، ولكن أوجزوا القول بوصفها (قضايا لا معنى لها)، لذلك أعتقد أن التصوف هو العرفان، ولكن التصوف هو الصيغة السنيَّة للمعرفة الحدسيَّة الباطنية، والعرفان هو الصيغة، التي فضلها الشيعة للمعرفة الجوانية الوجدانية، وكلاها لا يحده حد ولا يُمكن لنا الحكم على صدقيته، إلا في حل تبنينا لمعتقد أحدهم لنتوافق معه عقديًا لا فلسفيًا.
أداة الفيلسوف العقل في معرفة حقائق الأشياء والوجود، وأداة العرفاني هي عالم المشاهدة القلبية، وتجاوز معطيات العقل الإنساني للفناء في العقل الإلهي، وفي التصوف مجاهدة للنفس ومعرفة شهودية للذات الإلهية، ولا فرق بين العرفان والتصوف إلا من جهة تمسك أهل العرفان بتجاوز المعرفة العقلية الفلسفية بالإفادة من علومها أولاً، والتجلي العرفاني في مراتب المعرفة الروحية بعد أنعموا النظر في المعرفة اتلعقلية، فاكتشفوا أن طريق (الذوق) هو الطريق المباشرة لإدراك كُنه الوجود، بينما الصوفية تجاوزوا الخوض في قيمة المعرفة العقلية وتوظيف النظريات الفلسفية، ليختصروا لنا طريق المشاهدة القلبية، ليكون النور الذي يقذفه الله في الصدر، هو (مرآة) الوجود الحقيقي (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح)، وهذه المرآة هي التي تعكس لنا نور الله.