حسن العاني
لأول مرة قبل ربع قرن وهما يقدمان نفسيهما عبر سلوكهما في المحلة والمقهى والسوق والرواح والمجيء معاً، على أفضل ما يكون عليه السلوك بين صديقين، إخلاصاً ووفاء وتضحية ومواقف رجولية، حتى بلغت العلاقة الوطيدة إلى أعلى حدود (الميانة)، بدليل أنهما لا يتورعان عن تبادل أكثر المفردات بذاءة، سواء كانت الأجواء موشومة بالمزاح والضحك، أم كانت في الحوار الجاد، أذكر مرة ونحن (بعض أصدقائهما) نجلس معهما في المقهى حين انتبهنا إلى أن أحدهما يتحدث إلى صاحبه عن مصيبة المصائب التي يمكن أن تحل بالعراق إذا ما حصل (فراغ دستوري)، ولم يتورع عن وصف الفراغ بلغة فيها مبالغة غير مقبولة، لأنه - كما يزعم - أشد فتكاً من الأسلحة النووية، وكلام فيه الشيء الكثير من الإسهاب والإنشاء والرعب..
كل ذلك وصديقه يصغي إليه صامتاً، حتى إذا انتهى قال له [كلامك عن الفراغ الدستوري لا يساوي عندي عقب سيجارة ولا أهمية له، فهو باختصار استنساخ رديء لما تسمعه من كلام سطحي على الفضائيات يصدر عن بعض السياسيين أو المحللين الذين يتحدثون في كل شيء، وبالتالي فأن آراءهم تفتقر إلى الموضوعية ولا يعتد بها..]، فلما انتهى من كلامه قال له [من حقك أن تقول مثل هذا الكلام لأنك من فصيلة الحمير السياسية التي لا تعرف ما هو الفراغ الدستوري، وماهي مخاطره ونتائجه الوخيمة]، انبرى صديقه قائلاً [سأطرح عليك مجموعة أسئلة وأريد إجابة مختصرة بمفردة (نعم) أو (لا)] رد عليه [موافق]، [أخبرني إذن لو حدث الفراغ الدستوري، هل يقبض المسؤولون والنواب رواتبهم الشهرية؟!]، [نعم] [هل يقبض المتقاعدون رواتبهم؟]، [نعم]، [هل يقبض الموظفون ورجال الجيش والشرطة والأمن، رواتبهم؟]، [نعم]، [هل تتوقف حالات الزواج والحب والطلاق؟!]، [لا]، [هل يتوقف الفساد او ينتهي؟]، [لا]، [هل نبقى نستورد الطماطة الأجنبية على حساب الطماطة العراقية؟!]، [نعم]، [هل تتحسن الكهرباء؟]، [لا]، [هل تُحل مشكلات البطالة والسكن والفقر؟]، [لا]، [هل يذهب التلامذة والطلبة إلى مدارسهم ومعاهدهم وكلياتهم؟]، [نعم].. واستمر على هذا المنوال حتى طرح قرابة خمسين سؤالاً، وكان سؤاله الأخير غريباً بعض الشيء، [هل تستطيع أن تخبرني الآن من هو الحمار السياسي فينا؟!]، طأطأ رأسه ورد عليه [لا حاجة لإخبارك، لأن الإجابة واضحة!] وفجأة اعتذرا وغادرا المقهى في طريقهما إلى المنصور لتناول العشاء، وكأن شيئاً
لم يكن..