في مديح عنصرية الآخرين

العراق 2022/06/18
...

أحمد عبد الحسين
 
على عكس ما هو مظنون، فإنّ عنصرية وفاشيّة المجتمعات غالباً ما تأتي من عنصرية النخبة وفاشيتها، فلا تنتشر العنصريّة ولا تزدهر ولا يكون متاحاً للناس أن تنشئ عنها تبريرات متماسكة ومنطقية ولا يكون الدفاع عنها ممكناً إلا حين يكون هناك خطاب عنصريّ اشتغلتْ عليه عقول وأقلام راكزة. فوراء كلّ حميّة عنصريّة فيلسوفٌ ما أو جمهرة فلاسفة.
النازيّة الألمانية نتاجُ فكرٍ اشتُغلَ عليه مديداً وجيء بنيتشه قسراً ليكون سادناً للفرادة التاريخية الألمانية التي تقترب من الاصطفاء الإلهيّ، وهو نموذج من العنصرية فُتن به العربُ لشاعريته ولعدائه للصهيونية التي كانت هي الأخرى نتاج نخبةٍ يهوديّة من متدينين وعلمانيين أفنوا حياتهم في صوغ خطاب يختلط فيه الدين والقومية ويمجّد العنصرية ويجعل من شعبٍ محدود العدد شعبَ اللهِ حصراً دون سائر الشعوب. وقد حاول العرب تقليد النموذج الهتلري لكنْ من دون براعةٍ، فكان نتاج ميشيل عفلق نسخة كاريكاتيرية غرضها تعريب النازية.
افتتاننا بعنصرية الآخرين لم يتوقّف. الدور اليوم لعنصرية جديدة تنشأ في روسيا، مظهرها العمليّ سياسة بوتين التي ترى في روسيا ليست مجرد وطنٍ بل رسالة خالدة وحضارة تهزأ بالحدود، وجوهرها العميق فلسفة ألكسندر دوغين وقبله ليف غوميليوف الذي يُستحضر في طقوس شبيهة باستحضار هتلر لنيتشه، إذْ أن غوميلوف هو ابن اثنين من أكبر المنشقين عن شيوعية الاتحاد السوفيتي: الشاعرين العظيمين نيكولاي غوميليوف وآنّا أخماتوفا.
كثير من المثقفين والساسة العرب، وبضمنهم عراقيون طبعاً، مأخوذون بعنصرية روسيا الجديدة للسببين المذكورين آنفاً أعني لشاعريتها وعدائها للغرب وأميركا.
ومثله تماماً افتتاننا بالخطاب الإيرانيّ المتلبّس بالدين والقومية معاً ويمنح إيران سماء ثانية غير هذه السماء التي تظلل البشر، سماء شاعرية مصاغة من مروّيات عن الماضي وأخرى عن المستقبل تتيح لهم أن يكونوا متفردين وترسّخ استثناء إيران كرسالة لا كدولة. وإعجاب كثيرٍ منّا بهذا النموذج لا يبعد عن إعجابنا بالنموذجين السالفين.
اعتقادي أن لو ترك العراقيُّ لحال سبيله لما فكّر أن يكون عنصرياً، بدليل أنه ليس فاشياً في التعنصر لقوميته أو وطنه، ولا يرى في بلده سوى بقعة أرض تسيجها حدود "البعض يراها مصطنعة"، فلا رسالة مميزة ولا فرادة تاريخية ولا بيرق حضاريّ يرفرف في سماء المجد!
نحن لسنا عنصريين. نحن أسوأ من ذلك. نحن مبتلون بمرض لا شفاء له: الافتتان بعنصريّة الآخرين!