برناسيون!

العراق 2022/06/19
...

أحمد عبد الحسين
الطبقةُ السياسيّة التي لا تملك ما تقدّمه للشعب سوى السياسة، محكومة بالفشل والاندثار، ستصبح خطراً على الناس، ثمّ شيئاً فشيئاً ستصبح خطراً على نفسها إلى أن تتهالك بعد أن تهلك الكثير.
منذ 2003 لا يصنع السياسيون عندنا سوى حراك سياسيّ محض لم ينصرف في الجنبات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية، لا تنمية ولا رؤى مستقبلية قريبة أو بعيدة، لا شيء سوى صراع سياسيّ. وحتى هذا الصراع هو صراع قارٌّ لأنه لا يسفر عن تغيير يُذكر، إذ الترسيمة السياسية هي ذاتها التي خرجتْ من جيب بول بريمر شغّالة إلى اليوم مع بعض التنويعات الهامشية التي لا تخدش كمال اللوحة.
نظام قويّ لأنه لم يخرج من سياسيته أبداً. لم “يتلوّث” بمنجزٍ واحد ليمكن محاكمته أو حتى مؤاخذته، لم يقدّم شيئاً خارج العمل السياسيّ. جهد كبير محموم تحكمه “برناسيّة” جذريّة، مع فارق أن البرناسية القديمة أنتجتْ “الفنّ للفنّ”، وبرناسيّتنا صنعتْ لنا “السياسة للسياسة».
قويّ هذا النظام إلى الحدّ الذي لم تقدر على تغييره احتجاجات وانتفاضات، ولم تزحزحه انتخابات. نهاية احتجاج تشرين ليس الشاهد الوحيد على قوّته، بل انسحاب الصدريين كذلك.
لم يقبض العراقيون من معاناة عشرين سنة سوى هذه التحفة الفنيّة المشغولة بعناية والتي اسمها “الحراك السياسيّ”. واقتنعنا أن نرضى بدورنا المرسوم لنا، مجرد متفرجين على هذه اللوحة الجميلة، مأخوذين بها نتخاصم ونفترق ونتجادل حدّ السباب والتشاتم، لكنها باقية على حالها مع بعض الرتوش وضربات الفرشاة السريعة ننتظرها كل أربع سنوات بفارغ الصبر مع علمنا أن هذه التغييرات الطفيفة لن تفقد اللوحة سحرها.
الحراك السياسيّ لدينا ليس أداة للوصول إلى أمرٍ آخر، بل هو عالم مكتفٍ بنفسه يستحق أن نقضي أعمارنا ونحن ننغمس به تاركين الحياة كلّها من حولنا، لأن هذا الحراك هو بمعنى من المعاني أصبح حياتنا كلّها.
لكنّ الصورة ليست قاتمة تماماً، فجحيمنا هو نعيمُ آخرين، لأنّ الحراك السياسيّ الذي لا يثمر في أراضينا، يطرح غلّته في أراضي الساسة مكاسب ومسكوكات. ونحن نتفرّج منشرحي البال بعد أن اقتنعنا أن السياسة للسياسة كما الفنّ للفنّ.
ليس الأمر بأيدينا. نحن برناسيّون أباً عن جدّ.