في الحاجة إلى فلسفة

العراق 2022/06/20
...

أحمد عبد الحسين
في مقدمة كتاب بول ريكور "التاريخ، الذاكرة، النسيان" يوجّه الفيلسوف العظيم شكره إلى أحد طلبته لأنه قرأ الكتاب وأبدى ملاحظاته. لا شيء يثير الانتباه في ذلك سوى أنّ اسم الطالب "ايمانويل ماكرون" مشابه لاسم الرئيس الفرنسي الحالي. كتب ريكور "أشكر إيمانويل ماكرون الذي أدين له بنقدٍ أغنى كتابةَ وتنظيمَ المنظومة النقدية لهذا الكتاب".
سأعرف لاحقاً أنّ الأمر ليس تشابه أسماء، بل هو الرئيس نفسه حين كان طالباً عند ريكور. وسأعرفُ أيضاً أن دراسات عدّة كُتبتْ عن تأثير ريكور في تلميذه الذي أصبح رئيس دولة كبرى.
للمثال، هناك بحث كتبه أوليفير أبيل عضو "الجمعيّة الدوليّة للدراسات الريكوريّة" يلتقط فيه جوهر الفكر الريكوريّ المتمثل في ما يسمّيه "سيرورة الإدماج" وهو يتلخص بقدرة ريكور البلاغية والخطابية على مصالحة مفهومين يبدوان متناقضين أشدّ التناقض، كما في كتابه "الذات عينها كآخر" الذي هو سياحة علمية دقيقة في التعرّف على الآخر وفي الوساطات التي تقيمها الذات مع العالم ومع نفسها كذلك، ثم يختتم الكتاب بنشيدٍ صوفيّ عن أهميّة الإيمان.
ثم يبحث تأثير ذلك في الرئيس الفرنسي، ويلحظ أن ماكرون في خطابه السياسيّ هو ريكوريّ بامتياز، ففي كلّ أحاديثه يكثر من عبارة ريكور الأثيرة "وفي الوقت نفسه" حين يريد القيام بأمرين يبدوان متنافرين.
لا يليق بسياسيّ يستحق اسمه إلا هذا، أعني أن يكون قوله وفعله مؤسسينِ على قاعدة فلسفية راكزة تحجز خطابه عن أن يهوي إلى إنشاءٍ وثرثرة، أو أن تستهويه الشعبويّة المغرية فلا يعود من فارق كبير بين حديثه وحديث المقاهي.
لا أريد عقد مقارنة بين ماكرون وسياسيينا، فهي مقارنة ظالمة لا يرضاها الله ولا عباده الصالحون، لأنّ السياسيّ هنا يمتلك هو الآخر مراجع معرفيّة، لكنها مراجع غاية في الرثاثة. يكفي أن تنظر إلى مستشاريهم وصانعي الأفكار لديهم لتعرف لماذا الخطاب السياسيّ لدينا يقطر شعبويةً وجهلاً. وانظر إلى مدوّنيهم لتعرف الارتباط العضويّ بين الحديث السياسيّ وقلّة الأدب.
ثمة عبارة شهيرة لأوكتافيو باث "أيها الشاعر تلزمك فلسفة قويّة". بقليل من التحريف المنتِج يمكن أن تصبح "أيها السياسيّ تلزمك فلسفة قويّة"، وتظلّ على حالها من الصحّة والدقّة والعمق.
قلْ لي ما فلسفتك أقلْ لك أيّ سياسيّ أنت.