عطية مسوح
تضرب هذه الثقافة جذورها في عمق التاريخ العربيّ، وتواريخ الشعوب كلّها، وإذا كانت الشعوب التي سبقتنا في مضمار التقدّم والحداثة قد تخلّصت إلى درجة كبيرة من هذه الثقافة وتجنّبت آثارها السلبيّة على شخصيّة الإنسان وسلوكه فإنّ مجتمعاتنا العربيّة ما تزال تنوء تحت وطأة هذه الثقافة المدمّرة للشخصيّة السويّة الفاعلة.
وترافِقُ هذه الثقافة الإنسانَ في مختلف مراحل حياته.
فالطفل يوضع في حالة خوف من العقاب إن هو أخطأ، وكثيراً ما تُنزل به عقوبة أكبر مما يستوجبه الذنب الذي ارتكبه دون أن يُسمح له بالاعتراض أو التعبير عن الاحتجاج.
وكثيراً أيضاً ما نهدّد الطفل بالشرطيّ أو بالشكاية إلى الأب الذي سيعاقبه حين يحضر، أو بحرمانه مما يمتعه... وحين يكبر قليلاً يبدأ خوفه المُكتسَبُ من البيئة، من حساب الآخرة وعقاب جهنم، ويرافقه هذا الخوف حتى يموت. ولعلّ أخطر ما ينتج من ذلك أنّ الإنسان يتجنّب الشرّ خوفاً من العقاب وليس لأنه شرّ، ويفعل الخير رغبة في الثواب وليس لأنه خير، وبالتالي قد يحجم عن القيام بعمل خيّر لأنه لا يستجلب ثواباً، أو يقوم بعمل ضارّ لأنّه لا يوجِبُ عقاباً.
وفي بلداننا المتخلّفة يشكّل المجتمع، بتقاليده واقتحامه حياة الفرد، عاملَ خوف آخر يؤثّر على الشخصيّة وسلوكها.
قد نجد هذا في كلّ المجتمعات، لكنّه يتناسب طرداً مع تخلّف المجتمع.
أمّا أكثر مصادر الخوف في مجتمعاتنا العربيّة فهو السياسة، أي الخوف من عواقب الرأي السياسيّ إذا كان مخالفاً لرأي السلطة السياسيّة.
فالمؤسّسات الأمنيّة العربيّة لا تنطلق من حقّ الإنسان في أن يكون ذا رأي مخالف لرأي السلطة السياسيّة، ولا تحرص على حماية حقّه في نقد ما يراه خطأ في السياسة أو التوجّه الاقتصاديّ، ولا تصون حرّيّة الصحافة التي ينبغي أن تكون “سلطة رابعة” كما يُطلق عليها في البلدان الديمقراطيّة، ولا تعمل دائماً وفق الدساتير والقوانين المعلنة. وذلك كلّه جعل الإنسان العربيّ يعيش حالة خوف حين يقارب السياسة مقاربة نقديّة.
إنّ ثقافة الخوف السائدة في مجتمعاتنا تُفقِدُ الإنسان، والشابّ بخاصة، الثقة بالنفس وتدفع به إلى التخاذل في نصرة الحق وتجعله متردّداً في التعبير عن رأيه، فيغدو شخصيّة سلبيّة منفعلة لا فاعلة. وانطلاقاً من ذلك فإنّ استبدال ثقافة الشجاعة بثقافة الخوف هو مهمة كبرى في السعي لجعل شبابنا أكثر فاعليّة، ومنح أبناء الوطن السمات التي يتصف بها المواطن الحقيقيّ العارف بحقوقه وواجباته.
هذا الاستبدال يبدأ من البيت، ثمّ يُتابع ويُستكمل في المدرسة والجامعة والوظيفة والحارة والقرية، وفي الجمعيّة أو النادي أو الحزب إذا كان الشخص منتمياً لأحدها.
الشجاعة قيمة إنسانيّة كبرى يكتسبها المرء من خلال التربية والتثقيف، وتعزّزها أساليب الحكم الديمقراطيّة. وإذا كان أخطر نتائج ثقافة الخوف اعتياد الشاب على الطاعة والانقياد، فإنّ هذا الاعتياد يؤدّي على التدريج إلى قتل سمة من أهمّ سمات الشباب النفسيّة، وهي الميل إلى رفض القوالب الجاهزة للتصرّف، والتمرّد على الظلم، والتفكير في جدوى التقيّد بالمألوف الذي درج عليه المجتمع وسُخّر عبر الأجيال لمنفعة المتنفّذين. أمّا ثقافة المنع فهي قرينة ثقافة الخوف.ويبدأ الإنسان بمعاناة المنع منذ الطفولة أيضاً.
وإذا كان المنع يحمي الطفل والشابّ أحياناً من الوقوع في الخطأ، فإنّ له أضراراً تقع على الشخصيّة وتكوينها، وذلك إذا بولغ به وتحوّل إلى ثقافة وأدّى إلى لجم قدرة الإنسان على التجريب.
كثيراً ما يظنّ المشرفون على التربية والإعلام والسياسة أنّهم يستندون إلى خبرتهم حين يمنعون من يوجهونهم من القيام بفعل ما، أو الاطّلاع على معلومات ما، وأنهم ينفعونهم وينفعون المجتمع بهذا المنع. وهذا الظنّ غلط ووهم في الوقت ذاته. غلطٌ لأنّ الإنسان يصبح أقدرَ على تجنّب الخطأ إذا قاربه أو وقع به، أي إنّ خبرته تتكوّن ذاتيّاً بمساعدة الآخرين. أمّا الخطر الأكبر فهو أنّ قائمة الممنوعات تتّسع بلا حدود إذا أطلِقتْ أيدي المتنفّذين والحكّام ورجال الدين، لأنّهم ينطلقون من استباق ما يمكن أن يؤذي تسلّطهم بمنع بوادره، فيعمدون إلى مبدأ (الباب الذي تأتيك منه الريحْ سُدّه واستريحْ). أمّا الوهم في هذا الظنّ فيأتي من كون المنع بلا جدوى في زمننا، فالشاب يستطيع أن يعرف كلّ ما تمنع السلطة الاطلاع عليه من خلال الصحافة الإلكترونيّة. وإذا كان كلّ محجوب مرغوباً فيه كما يفيد المثل الشعبيّ، فإنّ المنع يزيد الاهتمام والرغبة في الاطّلاع.
أمّا بديل المنع فهو تمكين الناس، وبخاصّة الشباب، من الوعي، وتدريبهم على التمييز بين الصالح والفاسد والمفيد والضارّ والنافع والأنفع، وتسليحهم بالمعرفة بلا حدود أو حواجز، والإفساح لهم في مجالات التجريب والجرأة ضمن الحدود المعقولة، ومناقشتهم في وجهات نظرهم حول مختلف القضايا، ليكون تجنّب الخطأ بقناعتهم والاتّفاق معهم، لا بالمنع المفروض
فرضاً.
إنّ تحرير الشباب من الخوف والمنع هو طريق تكوين الموهوبين الأحرار، أمّا تربيتهم على التسليم والخوف والطاعة فقد يخدم القوى النافذة والمحافظة، لكنه لا يخدم المجتمع الذي ينبغي أن يكون تآلفاً بين مواطنين أحرار.
*كاتب سوري