قالب الدور وقالب المونولوج في الغناء العربي

الصفحة الاخيرة 2022/06/26
...

اعداد وتحرير: مآب عامر
في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ظهرت أسماء كان لها أثرٌ بارز في تأسيس قواعد لبناء هويَّة غنائيَّة موسيقيَّة عربيَّة، ومن الملحنين والمطربين عبده الحامولي ومحمد عثمان، وفي ما بعد ظهور الملحن والمطرب سيد درويش من مصر، أما في العراق فظهور الملا عثمان الموصلي الذي كان له دورٌ بارز، وكذلك الملحن عمر البطش من سوريا، لتكون تلك فترة تأسيسيَّة اعتمدت عليها أجيال متعاقبة لدراسة أعمال هؤلاء الفنانين لما قدموه من نماذج فنيَّة أصبحت في ما بعد تدرس في أغلب معاهد الموسيقى والغناء في بلدانهم والبلدان الأخرى.
 
 سمير خلف
قالب غنائي عربي
قالب الدور يحتاج الى قوة صوت، وأيضاً يحتاج الى قدرة تلحينيَّة، وقد قام بهندسته وأثراه الملحن عبد الرحيم المسلوب تقريباً في العقد السابع من القرن التاسع عشر بعد أنْ استولت الموسيقى التركيَّة والتأثير الكبير عند الموسيقيين العرب من خلال قوالب موسيقيَّة كقالب السماعي وقالب اللونجا والبشرف، وكان من الضروري ظهور قالب غنائي يحمل هويَّة عربيَّة وفي طياته التطريب والتي أصبحت في ما بعد والى يومنا هذا الأذن العربيَّة أسيرة لسماع التطريب من خلال الصوت البشري.
وعند ظهور قالب الدور لجأ كل الملحنين والمطربين لهذا القالب الغنائي الجديد والتلحيني لاستعراض قدرات الملحن بصياغة جملٍ لحنيَّة فيها التطريب، وكذلك أيضاً استعراض المطرب لقدراته الصوتية.
انقرض القالب أعلاه في منتصف القرن العشرين لعدة أسباب أولها عدم ظهور أصواتٍ قويَّة تستطيع أنْ تؤدي غناء هذا القالب الصعب، لا سيما بعد أنْ هجره أكبر المطربين والملحنين وعلى رأسهم الموسيقار المصري محمد عبد الوهاب الذي أهمل قالب الدور في ثلاثينيات القرن الماضي وكذلك أم كلثوم هجرت هذا القالب.. وهنا يُطرح سؤالٌ مهمٌّ وهو لماذا ترك عبد الوهاب وأم كلثوم هذا القالب المهم وهما صوتان قويان باستطاعتهما أنْ يستعرضا قوة صوتيهما بهذا القالب الصعب؟ وكذلك استعراض محمد عبد الوهاب قدراته التحلينيَّة وأيضاً قدرات ملحني أم كلثوم الذين برعوا بتلحين هذا القالب أمثال (زكريا أحمد ومحمد القصبجي وداود حسني)؟.
وللإجابة عن السؤال، هو ظهور قالبٍ جديدٍ وهو المونولوج الذي يكون فيه اللحن مرسلاً وحراً ومن دون قيودٍ، فليس شرطاً أنْ تكون هناك مقدمة موسيقيَّة، فربما يبدأ اللحن في غناءٍ مرسلٍ بدون إيقاع وثم يدخل الإيقاع الذي يختاره الملحن أو تبدأ الموسيقى مع دخول الإيقاع وبعدها يعود الغناء من جديد بصيغة لحنيَّة مغايرة عن البداية.
 
درويش والمونولوج
كان الموسيقار المتطور (سيد درويش) أول من لحن قالب المونولوج من خلال مونولوج «والله تستاهل يا قلبي» في مسرحيته الغنائيَّة (راحت عليك) وهذا المونولوج فتح الآفاق للملحنين الآخرين مثل محمد القصبجي وعبد الوهاب بصياغة ألحانٍ كثيرة من هذا القالب، إذ بدأ القصبجي بتلحين أول مونولوج له (سكت والدمع اتكلم) عام 1926 الذي غنته أم كلثوم ثم تلته مونولوجات كثيرة لحنها القصبجي لأم كلثوم وأشهرها مونولوج (إن كنت اسامح)، الذي حقق نجاحاً كبيراً من خلال بيع ربع مليون نسخة من الأسطوانة وهذا رقمٌ كبيرٌ في المبيعات قياساً الى باقي الأسطوانات التي لحنها سابقا القصبجي لأم كلثوم.
وأيضاً لحنها أحمد صبري النجريدي (أول ملحن قام بتلحين ألحان مخصصة لصوتها) هذه المولوجات أثارت حفيظة عبد الوهاب بتلحين مونولوجات متطورة، ففي (كثير باقلبي) و(اللي يحب الجمال) أدخل عبد الوهاب خاصيَّة الهارموني من خلال غناء أصوات متداخلة في لحنين مختلفين بذات الوقت والمونولوج الرائع (في الليل لما خلي) الذي يعده طفرة كبيرة بتاريخ الغناء العربي من حيث بناء المقدمة الموسيقيَّة، والتوزيع الموسيقي وكذلك اللوازم الموسيقيَّة، فضلاً عن دخول آلات غربيَّة لم يسبق أنْ أدخلت بالتخت الشرقي مثل التشيلو والكونترباص والفلوت، والتعبير اللحني على مضمون النص الغنائي.
إذاً إقبال الناس على سماع مثل هذا القالب المتجدد ربما كان سبباً مهماً في عزوف أم كلثوم وعبد الوهاب عن ترك قالب الدور آنف الذكر، وربما نتفق سويَّة على أهميَّة قالب القصيدة الغنائيَّة وتطورها وخاصة بعد ظهور منافسيين آخرين من المحلنين والمطربين، ففي مطلع الثلاثينيات ظهر رياض السنباطي وهو من الملحنين الكبار الذي ترك أثراً واضحاً وبرز بأسلوبٍ منفردٍ بتلحين القصيدة وما يحمل من التطريب الشرقي التي غنى بها كبار المطربين والمطربات وعلى رأسهم أم كلثوم وأسمهان وفتحيَّة أحمد ونادرة أمين وعبد الغني السيد وأحمد عبد القادر وغيرهم.
 
ظهور الأطرش وأسمهان
وفي منتصف الثلاثينات ظهر الموسيقار فريد الأطرش مع شقيقته أسمهان ليكونا خطاً جديداً للتنافس لتزداد حلبة التنافس من عدة جهات فكان فريد يحمل صوتاً قوياً متدرباً تدريباً جيداً على أصول الغناء الشرقي التطريبي لينافس بصوته عبد الوهاب وشقيقته أسمهان لتنافس وبشراسة أم كلثوم وظهورهم فتح باب المنافسة من أوسع أبوابها، إذ كان عبد الوهاب ينافس مع جبهة أم كلثوم من ناحية الصوت وينافس من جبهة أخرى ملحني أم كلثوم من ناحية اللحن، وبظهور فريد أصبحت جبهة جديدة يجب على عبد الوهاب الصمود للبقاء على عرش الغناء والموسيقى الذي كان متربعاً عليه ومن دون غريم، وكذلك التنافس بين ملحني أم كلثوم مع بعضهم لتلحينهم لصوت أسمهان وهذا جعل لأم كلثوم جبهتين هما عبد الوهاب واسمهان.
القصبجي الذي جعل من أم كلثوم تحلق عالياً في سماء الغناء وتعتلي عرش الغناء من خلال ألحانه التجديديَّة بإدخال جمل لحنيَّة ضمن قالب المونولوج حيث الجمل الرومانسيَّة ذات الامتدادات الصوتيَّة الحادة (الجوابات) مستغلاً قوة صوتها ومساحته في غناء القرارات والجوابات بتمكن قوي بدون وهنٍ وصاغ لصوتها تلك الجمل اللحنيَّة الحالمة مصحوباً بايقاعات غربيَّة راقصة مع مزجٍ رائعٍ بالأنغام الشرقيَّة والإيقاعات الشرقيَّة.. هذا المزج الجديد يشاد به الى عبد الوهاب حيث تأثره بالموسيقى الغربيَّة وكذلك سفره الى أوروبا مع الشاعر أحمد شوقي، ما أعطى ثقافة موسيقيَّة جديدة له بتطور الموسيقى الغربيَّة من خلال القوالب الموسيقيَّة كالسمفونيَّة والكونشرتو والسوناته والاوبرا والرباعي الوتري والقصيد السمفونية وأعداد أفراد الفرقة الموسيقيَّة الكبيرة في العمل الموسيقي.. رحلات عبد الوهاب الى أوروبا وسماعه موسيقى العالم المتطورة جعلته ينقل هذا التطور الى الموسيقى والغناء العربيَّة وهذا ما حصل فعلاً، فعبد الوهاب هو أول من أدخل إيقاع التانغو الأرجنتيني الإيقاع الراقص في منتصف مونولوج (مريت على بيت الحبايب) وتحديداً في المقطع الغنائي (قلت يمكن اللي هاجرني) ويستمر التانغو الى نهاية المونولوج، وكذلك إدخال إيقاع الرومبا الراقص في قصيدة (جفنه علَّمَ الغزل)، إذ كان أسلوب تلحين وغناء القصيدة يعتمد على التطريب والإيقاعات الشرقيَّة ذات الأوزان الطويلة.
 
مزج الغرب بالشرق
هذا التجديد والتطور بمزج موسيقى الغرب بموسيقى الشرق دفع الأجيال اللاحقة الى التأثر بهذه التجربة التي ابتكرها عبد الوهاب، كفريد الأطرش الذي بدأ مشواره الفني على هذا المزج الرائع بين الموسيقى الغربيَّة والموسيقى الشرقيَّة، إذ كان أول لحنٍ لفريد الأطرش أغنيَّة (بحب من غير أمل) وعلى إيقاع التانغو.
بعد كل هذا الصراع والتنافس الذي تم ذكره من الصعب الرجوع الى قالب تقليدي يعتمد فقط على قوة الصوت والجمل التطريبيَّة وربما الذي ذكرناه كان من الأسباب الرئيسة لعزوف عبد الوهاب وأم كلثوم عن غناء قالب الدور وحتى فريد الأطرش الذي يمتلك القدرة الغنائيَّة والتلحينيَّة لقالب الدور وخاصة وهو بدخوله كمنافسٍ شرسٍ لا بُدَّ أنْ يعمل بالتطور والتجديد والشي ذاته لأسمهان التي تحمل العقليَّة التجديديَّة والتطويريَّة.
ولا بُدَّ من الإشارة الى أسمهان التي غنت لكبار الملحنين على الإطلاق في عصرها، بينما أم كلثوم لم تتعامل إلا مع ملحنين قليلين جداً، وهذا له موضوعٌ آخر يطولُ الحديثُ عنه ربما في مناسبات أخرى سنتطرق له بالتفصيل.