عدنان حسين أحمد
على الرغم من واقعية فيلم "الملاذ الأخير" للمخرج المالي عثمان ساماسيكو إلا أنه يتحرّك في مدارات رمزية بامتياز، فالصحراء المترامية الأطراف هي المعادل الموضوعي للمجازفة والتيه والضياع؛ وهي أكثر من ذلك مقبرة للباحثين عن الخلاص من أوطانهم، ومطمرة للناس الذين فشلوا في الوصول إلى الجنة الأرضية في أوروبا والغرب الأميركي فعادوا بخُفيّ حُنين يحتضنون انكساراتهم التي اضطرتهم للعودة إلى جحيم الوطن وناره المتقدة أبدًا.
وعلى حد تعبير إحدى شخصيات الفيلم العديدة بأنّ "وظيفةً صغيرة في الوطن هي أفضل بكثير من مطاردة الأوهام الكبيرة في الخارج".
غير أن "التعليم هو مفتاح الاستقلال" والثقافة بمعناها الأوسع هي التي تمنح الإنسان الطموح رؤية واضحة تمنعه من خوض مغامرة كبيرة تشبه إلى حدٍ كبير مجازفة أيّلٍ صغير في اختراق أرض مليئة بالأسود الجائعة، ثمة مقاربة أخرى يجب أن تأخذ في الحسبان عند مشاهدة هذا الفيلم الوثائقي المؤثر مفادها أن المخرج قد استوحى قصة فيلمه من عمِّه الذي غادر إلى ألمانيا قبل 32 عامًا ولم يعد أبدًا، ولعله اختفى في مكان ما في طريق رحلته المحفوفة المخاطر.
وهذا الفيلم يلامس الأرواح الهائمة قبل العقول، ويتقصى أوجاع المواطنين الأفارقة على وجه التحديد وإن كان تركيز المخرج منصبًا على الجزء الشمالي الغربي من القارة السمراء، وتحديدًا مالي، وبوركينا فاسو، وبينين، والسنيغال، والصحراء الغربية، والجزائر.
تحظى الشخصيات النسوية في هذا الفيلم باهتمام كبير، بل أن القصة السينمائية التي كتبها ساماسيكو تأخذ فيها الأنثى حصة الأسد، فبعد أن يسلط المخرج الضوءَ على المقبرة التي تضم جثث الهاربين من أوطانهم أو العائدين إليها بعد فشلهم في الهروب ومواجهة مصائرهم المحتومة، ينتقل بنا ساماسيكو إلى "كاريتاس بيت المهاجرين"، أو الملاذ الأخير للذين تقطّعت بهم السبل ورقدت أحلامهم على حافة الصحراء المخيفة التي يمكنها أن تبتلع أي شيء، ثمة شواهد لقبور متواضعة، وألواح معدنية صدئة تحمل أسماء الموتى بأعمار تقريبية، تبدأ انعطافة الفيلم الأولى عندما نتعرّف على شابتين هاربتين من قسوة أسرتيهما في بوركينا فاسو وهما أستير التي تبلغ 16 عامًا، وكادي التي تبدو أكبر قليلاً، وسنراهما لاحقًا ترتديان فانيلات برشلونة وأرسينال في إشارة واضحة إلى الاستعمار وما فعله في البلدان المُحتلَة.
وفي حوار شائق بين المُهاجرتين سنعرف أن أستير أحبّت ثلاثة أشياء في طفولتها وأرادت أن تتعلّمها وهي الموسيقى، والتمثيل، واحتراف الملاكمة لأنّ هذه الأخيرة تتيح لها أن تنفِس عن الألم المكبوت في داخلها، أمّا كادي فأرادت أن تكون إمّا ضابطة شرطة، أو مدرّسة لغة فرنسية، أو طبيبة لكي تعالج المرضى وتنقذ حياة الفقراء والمعوزين، لم تتحقق أمنيات أستير وكادي حتى هذه اللحظة لكنهما ماضيتان في الحلم رغم وصولهما إلى هذا الخانق الضيّق الذي سيوضحه أريك آلان كامديم، مدير مركز بيت المهاجرين الذي يستمع إلى قصصهم، ويحلّ مشكلاتهم، ويقص شعرهم، ويعالج أمراضهم النفسية، ويساعدهم على تحمّل الوحدة، وينير لهم الطريق كلّما تسنّى له ذلك، فأستير الشجاعة، والقوية رغم حداثة سنّها تنهار في اللحظات الأخيرة حينما تستمع إلى نصائح كامديم وهو يروي لها المصاعب الجمّة التي تواجهها أي امرأة تفكر بعبور الصحراء إلى الجزائر حيث تصبح عُرضة للاغتصاب، ويجبرونها لاحقًا على ممارسة الدعارة.
أما الشباب فلا مجال أمامهم سوى الالتحاق بـ "القاعدة" أو العصابات الإرهابية التي تمارس عمليات السلب والنهب في رابعة النهار. وبعدما كانت أستير تمتنع عن الإدلاء بالمعلومات الشخصية البسيطة مثل الاسم الثلاثي، وشهادة الميلاد، ومكان الولادة أخبرت المدير بأن عمتها تسكن في مدينة غاوا جنوبي بوركينا فاسو. ولكي تجسّم العنوان على الأرض قالت إنه ليس بعيدًا عن المحطة وبالقرب من الجامع البهائي حيث تبيع الخبز للمارة.
تعتقد أستير أن أبويها لا يحبانها، وأنّ أمها قد تخلت عنها وهي في سنتها الثانية لذلك فهي لا تفكر بالعودة إلى وطنها، وتطمح لأن تذهب إلى الأمام حتى تحقق الحلم الذي يداعب مخيلتها.
ثم يأتي الدور على كادي ومنها ننتقل إلى ناتاشا ذات الـ 48 عامًا، وهي امرأة هادئة، منعزلة، تلعب مع نفسها الشطرنج والنرد ولم تنفتح على الآخرين إلاّ بعد مجيء أستير وكادي اللتين تجاذبتا معها أطراف الحديث وعرفتا أنها تُقيم في "بيت المهاجرين" منذ خمسة أعوام ولا تفكر بعبور الصحراء بعد أن وصلت إلى هذه السن المتقدمة بعض الشيء.
أمّا الشباب فبعضهم مرضى نفسيون إثر الصدمات التي تعرضوا لها في قلب الصحراء الموحشة لعل أبرزهم ماريكو الذي تتراءى له امرأة على النافذة ويحلم بالزواج منها أو الهروب معها إلى أقصى الشمال الذي يفضي بهما إلى الجنة المتخيلة التي تتوهج في أذهان غالبية الشبان الأفارقة. لا يصنع المخرج ساماسيكو نهاية فيلمه اعتمادًا على شطحات أفكاره، والتماعات تصوراته الذهنية. فقد عادت كادي، في الأقل، إلى بلدها بوركينا فاسو، بينما يمّمت أستير وجهها صوب الشمال ووصلت فعلاً إلى الجزائر. وهناك سوف تعمل، وتسدّد أجور المهربين الذين أوصلوها بأمان رغم مخاطر الطريق ووحشته.
لكن مَنْ سيضمن لها العبور إلى الضفة الأوروبية إذا كانت الوسيلة هي زروق متهالك ينتظره خفر السواحل بعيون مفتوحة حتى آخرها، وحواس يقظة حتى في الليالي الدكناء؟
جدير ذكره أن عثمان ساماسيكو هو مُخرج مالي حاصل على درجة الماجستير في الإنتاج والإبداع الوثائقي من جامعة غاستون بيرغر بسانت لويس في السنغال. وهو متعدد المواهب والاختصاصات، إذ يجمع بين الكتابة والتصوير والمونتاج والإخراج. يقترن اسمه بفيلمه الوثائقي الأول "ورثة التل" و"الملاذ الأخير" هو فيلمه الوثائقي الطويل الثاني الذي حصل على أكبر جائزة في مهرجان كوبنهاغن الدولي للأفلام الوثائقية وجوائز أخرى في مهرجانات أدفا ومونتريال وسياتل.