قبل أنْ يلقى المسرح التربوي حتفه

الصفحة الاخيرة 2022/06/28
...

 د.محمد إسماعيل الطائي 
يبدو أنَّ التربية ما زالت تجهل الأهميَّة التربويَّة، والأخلاقيَّة، والاجتماعيَّة للمسرح الذي تعددت استخداماته ووظائفه، بحيث امتدت إلى الميادين الطبيَّة والفنيَّة والتربويَّة وحتى العلوم الصرفة، وقد أصبح يوظف كوسيلة علاجيَّة في الطب والطب الاجتماعي، ووسيلة علاجيَّة للنطق والكلام، وتقويم بعض الإعاقات الحركيَّة، فمن خلاله أصبحت تقدم بعض العروض العلميَّة، التي تستمدُّ موضوعاتها من العلم والخيال العلمي؛ ونتيجة التقدم الكبير الذي أحرزته التربية وعلم النفس في القرن العشرين، فقد احتلَّ المسرح جانباً مهماً في العمليَّة التربويَّة، داخل المدرسة والصف الدراسي والمنهج، بحيث أصبح وسيلة تربويَّة تسهمُ في تنمية قدرات الطلبة العقليَّة، والفنيَّة، والتربويَّة، والاجتماعيَّة؛ ذلك لأنَّ مجال التربية يعدُّ من أخطر العوامل المؤثرة في مستقبل الأمم والشعوب، فالوعي الحضاري والثقافي هو: من أهم المؤثرات التي تحدد تشكيل الأجيال الناشئة، وتسهم في تخطيط برامجها وأهدافها، فهنالك دراسات متخصصة تؤكد أهميَّة المسرح في التربية وضرورة التصاقه بالمدرسة، ذلك أنه يخلق حلقة وصل مهمَّة، بين المدرسة والمجتمع، كما أنَّ المراحل الدراسيَّة الأولى هي الخالقة لجمهور المسرح الواعي ولبناء الفنان المسرحي الأصيل.
من هنا يتوجب على وزارة التربية أنْ تعيد اهتمامها بالمسرح داخل المدرسة أولاً قبل أنْ تنظم مشاهدات مسرحيَّة لطلبتها؛ لأنَّ المسرح في المدرسة الآن لا يزال ضرباً من ضروب النشاطات الثانويَّة، التي توضع غالباً في مؤخرة النشاطات الفنيَّة والرياضيَّة، فأغلب المدارس الابتدائيَّة والثانويَّة خاصة المدارس التي تقع خارج مراكز المحافظات، تجهل النشاطات الفنيَّة والمسرحيَّة لجميع أشكالها ومجالاتها جهلاً تاماً؛ ذلك أنَّ أغلب هذه النشاطات، غير مقررة في المناهج الدراسيَّة، ولأنَّ معظم المدرسين والمعلمين يجهلون أهميَّة النشاط الفني والمسرحي؛ بسبب محدوديَّة خبرتهم الفنيَّة، وبسبب التشكيك في جدوى هذا النشاط الجمالي/ التربوي ومن ثم أصبحت قيمة (النشاط المسرحي) محدودة أو عديمة الوجود، وإذا كانت هناك ممارسة مسرحيَّة في مدارس المحافظات، فالدافع الحقيقي لها هو رغبة الاشتراك في (المهرجانات السنويَّة) التي كانت تقيمها وزارة التربية، والتي اضمحلت نهائياً في هذه الفترة إنْ لم أقل انتهت.
وحتى الاشتراك في تلك المهرجانات، كان بقصد الحصول على الجوائز، التي يتباهى بها المشرفون المسرحيون، دونما اعتبار للقيمة التربويَّة، والنفسيَّة، والأخلاقيَّة للمسرح، ولدوره في المحيط المدرسي.
ومنذ بداية القرن الحالي تنبهت كثيرٌ من دول العالم، إلى خطورة العمليَّة التربويَّة فأخذت بتعديل سياستها التربويَّة من حيث المنهج، طرق التدريس، وحاجات الطالب النفسيَّة والذهنيَّة.. الخ) فأدخلت التقنيات التربويَّة كالسينما، والتلفزيون والكومبيوتر، والمسرح في ميدان التربية، حيث اعتبرت من أهم المواد، التي تتلاحم مع الخبرة التعليميَّة وتمتزج معها في إطار جمالي/ تربوي متكامل.
ونظراً لأهميَّة الأنشطة الفنيَّة وخاصة المسرحيَّة منها، التي يمارسها الطالب ومدى انعكاسها على بناء الشخصيَّة المتوازنة عقلياً وجسدياً، فإنَّ هربرت ريد يشير في كتابه إلى أنَّ (النشاط الجمالي) هو العمليَّة العضويَّة الخاصة بالتكامل الفيزيائي والعقلي، أيّ إدخال القيمة في عالم قوامه الحقائق، ومن هذا المنطق يمكن أنْ تدخل جميع النشاطات الفنيَّة وحتى المسرحيَّة، في أغلب المناهج الدراسيَّة، التي تتخذ طابع التجريد، كالرياضيات والعلوم الصرفة، فضلاً عن العلوم الاجتماعيَّة والإنسانيَّة الأخرى في الحياة المدرسيَّة، وعليه فالتربية مطالبة الآن بوضع منهج دراسي تربوي يكون (جمالياً) شكلاً وأساساً وجوهراً.
ففي التربية لا تكون الفنون موضوعاً أكاديمياً يختص بنمو العقل بل بنمو (البديهة) التي لا تقل أهميَّة عن العقل، وبوجود البديهة تتم تنمية الاختلافات الفرديَّة (الفروق الفرديَّة) إلى هي القمة الجماليَّة المنسيَّة، وهذا ما تؤكده النظريات التربويَّة والنفسيَّة الحديثة، التي تؤكد على النمو الكامل بدلاً من التعليم العقلي وحده.
من جانب آخر يعدُّ النشاط المسرحي إستراتيجيَّة وساطة بين المسرح والطلاب، ومن أجل تطوير مسرح إبداعي، وتجاوز الأنماط المعتادة للتعبير الدرامي، لا بُدَّ من تكثيف العمل المسرحي واستمراريته بإشراك الجمهور، ولهذا سيكون من الطبيعي أنْ يجد النشاط المسرحي مكاناً له ضمن الأنشطة المدرسيَّة فلقد (آن الأوان كي يعي كل من المسرح والتربية، أنهما يكملان بعضهما البعض ويسعيان معاً إلى خدمة الطلبة وإفادتهم).
وحتى لا يتعرض عالم الطفل «إلى انتهاكات النتاجات الرديئة أو غير المدروسة أو غير المناسبة» فعلى وزارة التربية أنْ تنتهج سياسة تربويَّة، تسهم في جعل المسرح جزءاً من حياة الطالب، ولتحقيق ذلك يمكن التركيز والعمل على: تخصيص حصة ضمن المنهاج الدراسي لمادة المسرح وللمراحل الدراسيَّة الثلاث، ويتوجب تعيين ملاكات متخصصة للقيام بمهمة تدريس هذه المادة، وحسب طبيعة المرحلة الدراسيَّة، وحاجة الطالب الذهنيَّة، والنفسيَّة، والجسديَّة، ومستواه الدراسي ومدى تقبله النشاط الإبداعي والمسرحي على وجه الخصوص. كذلك القيام بإعداد وتوفير النصوص المسرحيَّة، المعدة عن المناهج الدراسيَّة، ويمكن الاستعانة بذلك بالمسرحيين المتخصصين، وببعض المعلمين والمدرسين، الذين يمتلكون الدراية والحس الفني، والقدرة على إعداد المنهج الدراسي، وتقديمه على شكل مسرحيات قصيرة، تقدم لمديريات النشاط المدرسي للقيام بإنتاجها في المدارس التي يشرفون عليها.وحث المدارس لإقامة المهرجانات السنويَّة والفصليَّة، وإجراء المسابقات بهذا الخصوص في جميع القطاعات والمحافظات، على أنْ تقام هذه المهرجانات داخل المدارس وعلى قاعاتها؛ ليتسنى لأكبر عددٍ من التلاميذ والطلبة متابعة ومشاهدة العروض المسرحيَّة والاستمتاع بها.