تجاهل قالب الدور واعتماد المونولوج في الموسيقى المصريَّة

الصفحة الاخيرة 2022/07/03
...

  سمير خلف
في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ظهرت أسماء كان لها الأثر البارز لتأسيس قواعد، لبناء هوية غنائية موسيقية عربية، ومن الملحنين والمطربين عبده الحامولي ومحمد عثمان، وفي ما بعد ظهور الملحن والمطرب سيد درويش من مصر، أما في العراق فظهور الملا عثمان الموصلي، كان له دور بارز، وكذلك الملحن عمر البطش من سورية.
 
لتكون تلك فترة تأسيسية اُعتمدت عليها أجيال متعاقبة لدراسة أعمال هؤلاء الفنانين، لما قدموه من نماذج فنية أصبحت في ما بعد تُدرس أعمالهم باغلب معاهد الموسيقى والغناء في بلدانهم والبلدان الأخرى.
 
قالب الدور 
قالب الدور يحتاج الى قوة صوت، وأيضا يحتاج الى قدرة تلحينية وقد قام بهندسته وأثراه الملحن عبد الرحيم المسلوب تقريبا في العقد السابع من القرن التاسع عشر، بعد أن استولت الموسيقى التركية والتاُثير الكبير عند الموسيقيين العرب، من خلال قوالب موسيقية كقالب السماعي وقالب اللونجا والبشرف، وكان من الضروري ظهور قالب غنائي يحمل هوية عربية، وفي طياته التطريب والتي أصبحت في ما بعد والى يومنا هذا الأذن العربية أسيرة لسماع التطريب من خلال الصوت البشري. وعند ظهور قالب الدور التجأ كلُّ الملحنين والمطربين لهذا القالب الغنائي الجديد والتلحيني لاستعراض قدرات الملحن بصياغة جمل لحنية فيها التطريب، وكذلك ايضاً استعراض المطرب لقدراته الصوتي وانقرض القالب أعلاه في منتصف القرن العشرين لعدة أسباب أولها عدم ظهور أصوات قوية تستطيع أن تؤدي غناء هذا القالب الصعب، خاصة بعد أن هجره اكبر المطربين والملحنين وعلى رأسهم الموسيقار المصري محمد عبد الوهاب، الذي اهمل قالب الدور في ثلاثينات القرن الماضي، وكذلك أم كلثوم هجرت هذا القالب، وهنا يُطرح سؤال مهم وهو لماذا ترك عبد الوهاب وام كلثوم هذا القالب المهم، وهما صوتان قويان باستطاعتهما أن يستعرضا قوة صوتهما بهذا القالب الصعب، وكذلك استعراض 
محمد عبد الوهاب قدراته التحلينية وأيضاً قدرات ملحني ام كلثوم والذين برعوا بتلحين هذا القالب، أمثال (زكريا احمد ومحمد القصبجي وداود حسني).
 
اعتماد المونولوج
وللإجابة عن السؤال أعلاه وحسب تحليلنا المتواضع هو ظهور قالب جديد وهو قالب المونولوج، الذي يكون فيه اللحن مرسلا وحرا ومن دون قيود، فليس شرط ان تكون مقدمة موسيقية، فربما يبدأ اللحن في غناء مرسل بدون إيقاع، وثم يدخل الإيقاع الذي يختاره الملحن أو تبدأ الموسيقى مع دخول الإيقاع وبعدها يعود الغناء من جديد بصيغة لحنية مغايرة عن البداية. كان الموسيقار المتطور (سيد درويش) هو أول من لحن قالب المونولوج من خلال مونولوج (ولله تستاهل ياقلبي) في مسرحيته الغنائية (راحت عليك)، وهذا المونولوج فتح الآفاق للملحنين الآخرين، مثلم حمد القصبجي وعبد الوهاب، بصياغة ألحان كثيرة من هذا القالب، حيث بدأ القصبجي بتلحين أول مونولوج له (سكت والدمع أتكلم) عام 1926، الذي غنته ام كلثوم ثم تلته مونولوجات كثيرة لحنها القصبجي لام كلثوم واشهرها مونولوج (إن كنت اسامح)، حيث حقق نجاحاً كبير من خلال بيع ربع مليون نسخة من الأسطوانة، وهذا رقم كبير في المبيعات قياسا الى باقي الأسطوانات التي لحنها سابقا القصبجي لام كلثوم، وأيضا لحنها احمد صبري النجريدي (أول ملحن قام بتلحين ألحان مخصصة لصوتها).
 
خاصية الهارموني
 هذه المنولوجات أثارت حفيظة عبد الوهاب بتلحين مونولوجات متطورة ففي مونولوج (كثير باقلبي) ومونولوج (اللي يحب الجمال)، أدخل عبد الوهاب خاصية الهارموني من خلال غناء أصوات متداخلة في لحنين مختلفين بالوقت نفسه، والمونولوج الرائع (في الليل لما خلي)، الذي يعتبر طفرة كبيرة بتاريخ الغناء العربي من حيث بناء المقدمة الموسيقية والتوزيع الموسيقي، وكذلك اللوازم الموسيقية، إضافة إلى دخول آلات غربيَّة لم يسبق إن أدخلت بالتخت الشرقي مثل التشيلو والكونترباص والفلوت والتعبير اللحني على مضمون النص الغنائي، اذن اقبال الناس على سماع مثل هذا القالب المتجدد ربما كان سبباً مهما في عزوف أم كلثوم وعبد الوهاب عن ترك قالب الدور آنف الذكر، وربما نتفق معاً أهمية قالب القصيدة الغنائية وتطورها وخاصة بعد ظهور منافسين آخرين من المحلنين والمطربين، ففي مطلع الثلاثينات ظهر رياض السنباطي، وهو من الملحنين الكبار، الذي ترك أثرا واضحا بالقرن العشرين والذي برز بأسلوب منفرد بتلحين القصيدة، وما يحمل من التطريب الشرقي، التي أشدى بها كبار المطربين والمطربات، وعلى رأسهم ام كلثوم وأسمهان وفتحية احمد ونادرة امين وعبد الغني السيد وأحمد عبد القادر وغيرهم .
 
فتح باب المنافسة
في منتصف الثلاثينات ظهر الموسيقار فريد الأطرش مع شقيقته اسمهان، صنعا خطا جديداً للتنافس لتزداد حلبة التنافس من عدة جهات، فكان فريد يحمل صوتا قويا متدربا تدريبا جيدا على أصول الغناء الشرقي التطريبي، لينافس بصوته عبد الوهاب وشقيقته اسمهان لتنافس وبشراسة ام كلثوم، وظهورهما فتح باب المنافسة من أوسع ابوابها، حيث كان عبد الوهاب ينافس مع جبهة ام كلثوم من ناحية الصوت وينافس من جبهة أخرى ملحني ام كلثوم من ناحية اللحن، وبظهور فريد أصبحت جبهة جديدة يجب على عبد الوهاب الصمود للبقاء على عرش الغناء والموسيقى، الذي كان متربعا عليه وبدون غريم، وكذلك التنافس بين ملحني ام كلثوم مع بعضهم لتلحينهم لصوت اسمهان، وهذا جعل لام كلثوم جبهتين هو عبد الوهاب واسمهان .
القصبجي الذي جعل من أم كلثوم أن تحلق عاليا في سماء الغناء، وتعتلي عرش الغناء من خلال ألحانه التجديدية لام كلثوم بإدخال جمل لحنية ضمن قالب المونولوج، حيث الجمل الرومانسية ذات الامتدادات الصوتية الحادة (الجوابات)، مستغلا قوة صوت أم كلثوم ومساحته في غناء القرارات والجوابات بتمكن قوي، بدون وهن وصاغ لصوتها تلك الجمل اللحنية الحالمة مصحوبا بايقاعات غربية راقصة، مع مزج رائع بالانغام الشرقية والايقاعات الشرقية.
 
ايقاع الرومبا الراقص
 هذا المزج الجديد يشار به الى عبد الوهاب، حيث تأثره بالموسيقى الغربية، وكذلك سفره إلى دول أوروبا مع الشاعر احمد شوقي، ما أعطى ثقافة موسيقية جديدة له بتطور الموسيقى الغربية، من خلال القوالب الموسيقية، كالسمفونية والكونشرتو والسوناته والاوبرا والرباعي الوتري والقصيد السمفوني، واعداد الفرقة الموسيقية الكبيرة في العمل الموسيقي، رحلات عبد الوهاب إلى أوروبا وسماعه إلى موسيقى العالم المتطورة، جعلته ينقل هذا التطور الى الموسيقى والغناء العربي، وهذا ما حصل فعلا، فعبد الوهاب هو أول من أدخل إيقاع التانجو الارجنتيني الإيقاع الراقص في منتصف مونولوج مريت على بيت الحبايب، وتحديدا في المقطع الغنائي (قلت يمكن اللي هاجرني)، ويستمر التانجو الى نهاية المونولوج وكذلك ادخال إيقاع الرومبا الراقص في قصيدة (جفنه علم الغزل)، حيث كان أسلوب تلحين وغناء القصيدة يعتمدان على التطريب والايقاعات الشرقية ذات الاوزان الطويلة.
 
الابتعاد عن القالب التقليدي
 إنَّ هذا التجديد والتطور بمزج موسيقى الغرب بموسيقى الشرق، قد دفع الأجيال الآتية التأثر بهذه التجربة، التي ابتكرها عبد الوهاب، وفريد الأطرش الذي بدا مشواره الفني على هذا المزج الرائع بين الموسيقى الغربية والموسيقى الشرقية، حيث كان اول لحن لفريد الأطرش أغنية "بحب من غير أمل" وعلى إيقاع التانجو، بعد كل هذا الصراع والتنافس الذي تم ذكره من الصعب الرجوع إلى قالب تقليدي يعتمد فقط على قوة الصوت والجمل التطريبية، وربما الذي ذكرناه كان من الأسباب الرئيسة لعزوف عبد الوهاب وام كلثوم عن غناء قالب الدور، وحتى فريد الأطرش الذي يمتلك القدرة الغنائية والتلحينية لقالب الدور وخاصة وهو بدخوله كمنافس شرس، لا بدَّ أن يعمل بالتطور والتجديد، والشيء نفسه لأسمهان التي تحمل العقليَّة التجديديَّة والتطويريَّة.
لابد للإشارة الى اسمهان التي غنت لكل كبار الملحنين على الإطلاق في عصرها بينما ام كلثوم لم تتعامل الا مع ملحنيين قليلين جدا وهذا له موضوع اخر يطول الحديث عنه ربما في مواضيع أخرى سنتطرق له بالتفصيل.
 
 ناقد وباحث موسيقي