منطق القوّة والمصلحة وانتعاش ستراتيجية المحاور

الرياضة 2022/07/17
...

 جواد علي كسار
 
منذ الإعلان عنه قبل قرابة الشهرين، استقطب خبر زيارة الرئيس الأميركي بايدن إلى المنطقة، قدراً كبيراً من الاهتمامات على مستوى التحليل والتنظير وتوقّع النتائج المرتقبة، عبّر الكثير مما صدر في صحافة المنطقة وبقية مراكز التحليل السياسي، كما في أميركا نفسها. 
ومن ثمّ تصاعدت وتيرة الاهتمام هذه اقتراناً مع الزيارة وما بعدها؛ كلّ ذلك في حصيلة تؤكد أهمية الزيارة وجداناً وعياناً، وتكشف عن مركزية الدور الأميركي، سواء لمن يقف مع الولايات المتحدة مؤيداً لها في سياساتها ومواقفها داخل الإقليم، أو من يناهضها ويصطفّ ضدّها، في جبهةٍ تُعارض وجودها ودورها في هذا الجزء من العالم.
 
أميركا والمنطقة
أياً ما تكون الرؤية التحليلية التي نتبنّاها؛ فإن زيارة الرئيس الأميركي للمنطقة بصرف النظر عن هوية إدارته جمهورية أو ديمقراطية، تُعدّ حدثاً متميّزاً في السياسة الدولية والإقليمية. 
فأميركا حديثة العهد نسبياً على المنطقة إذا ما قورنت بالقوى الأوروبية في موجاتها القديمة والحديثة، فإلى مطلع القرن العشرين كانت السياسة الأميركية ما تزال معتصمة بمبدأ العزلة، وخلا محاولات متواضعة لم ينشط حضورها في المنطقة إلا في مرحلة الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945م) وما بعدها.
في ضوء هذه الخلفية يمكن تفسير قلة زيارة الرؤساء الأميركان نسبياً إلى المنطقة؛ لاسيّما إذا ما قورنت ببقية محاور الدبلوماسية الأميركية ومجالاتها الجيوسياسية الحيوية، إذ تُشير بعض الإحصاءات المتتبعة، إلى أن تسعة فقط من رؤساء أميركا زاروا المنطقة خلال القرن الأخير، هم بالإضافة إلى جو بايدن؛ دونالد ترامب وباراك أوباما وجورج بوش الابن وبيل كلينتون وجورج بوش الأب وجيمي كارتر وريتشارد نيكسون ودوايت إيزنهاور وفرانكلين روزفلت. 
في حين لم يزر المنطقة خمسة رؤساء أميركيين في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، هم هاري ترومان وجون كينيدي وليندون جونسون وجيرالد فورد ورونالد ريغان.
 
اتجاهات التحليل
بشأن اتجاهات التحليل أعتقد أن هناك قدراً كبيراً من المبالغة، لاسيّما في تلك القراءات التي ذهبت إلى أن زيارة بايدن هي بداية لتغييرات جذرية في المنطقة، ستبدأ مع الزيارة وتتفاعل على مدار عشر سنوات قادمة، إذ تخطط الإدارة الأميركية بحسب هؤلاء، إلى خريطة جديدة لما يطلق عليه القاموس الغربي وبالأخص الإنكليزي بالشرق الأوسط، تشبه إلى حدّ كبير، ما حصل مع زيارة الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما إلى مصر عام 2009م، وخطابه الشهير المعنون «بداية جديدة» الذي ألقاه بجامعة القاهرة بتأريخ 4 تموز، وكان بنظر هؤلاء تخطيطاً مسبقاً لموجة الحوادث التي انطلقت بعد ذلك، وأسقطت بعض أعمدة الأنظمة التقليدية في الإقليم العربي، ضمن ما اشتهر بـ»الربيع العربي»، (يُنظر مثلاً: خريطة طريق بايدن للشرق الأوسط، صحيفة آرمان امروز الطهرانية، الثلاثاء 12 تموز 2022م).
على الضفة الأخرى وفي ما يرتبط بالجهة المناوئة لستراتيجيات أميركا وسياساتها في الإقليم، يقرأ البعض زيارة بايدن على أنها تعبير عن ضرب من الترتيبات الإقليمية المكملة للانسحاب من أفغانستان صيف العام الماضي، ومن ثمّ فهي بنظرهم حلقة إضافية لتفريغ محور غرب آسيا من الوجود الأميركي تماماً، بإعادة الدور إلى الركائز الإقليمية، لكن هذه المرّة عبر إيجاد ترتيبات لحضور «إسرائيلي» رسمي وعلني، لكي تتفرّغ أميركا بالكامل إلى مواجهة الصين، أو محور الشرق كما يروق للبعض أن يصفه،  المتكوّن من الثلاثي السياسي بكين - موسكو - طهران، وظهيره الاقتصادي المتمثل بمجموعة «بريكس» ومنظمة شانغهاي.
بصراحة وعلى عجالة، أصحاب هذا الاتجاه في التنظير والتحليل السياسي، ينظرون لزيارة بايدن على أنها حلقة جديدة من مسلسل أفول الأحادية القطبية في النظام العالمي، يقابلها صعود محور الشرق انطلاقاً من آسيا، لما يؤدّي إلى المزيد من الخطو العملي صوب التعدّدية، وتالياً بناء نظام عالمي جديد بعيد عن المركزية الأميركية. 
بعض هؤلاء يذكر في سياق التنظير، منهج الراحل أنور عبد الملك (1924 - 2012م) في كتابيه الشهيرين «ريح الشرق» (القاهرة: 1984م) و»تغيير العالم» (الكويت: 1985م) متناسين مجموعة الشروط الفلسفية والحضارية التي وضعها عبد الملك لتغيير العالم ضمن ما أسماها بالرؤية الثالثة، القائمة على أساس التعدّدية، من دون أن يقلل قيد أنملة من أهمية القوّة الاقتصادية والعسكرية، في صناعة هذا التحوّل، أو يتورّط بالمثاليات التي تقارب الأحلام بل الأوهام أحياناً، وتضحّي منهجياً بالواقعية السياسية، التي سجّلها شرطاً لا محيص عنه ومفتاحاً لابدّ منه للتغيير، كما نص على ذلك في الصفحة ما قبل الأخيرة من كتابه (يُنظر: تغيير العالم، ص 254)؛ ومن دون أن يهمل أيضاً التعامل الذكي مع ما أسماه بفائض الدور التأريخي، واستثمار الرصيد الحضاري لآسيا والعالم الإسلامي في عملية التغيير المركّبة والمعقدة هذه.
 
منطق القوّة والمصلحة
من خلال الإطلاع على عشرات التحليلات والأنظار التي تعاطت مع الحدث قبل الزيارة وأثنائها وما بعدها، لم أجد أفضل من منهج التحليل الواقعي في التعامل معها.
فمن بين مناهج عدّة تُساق عادة في التعامل مع العلاقات الدولية ووسائلها وأدواتها، أبرزها المنهج التأريخي والقانوني والواقعي، لم أجد أكفأ من منهج التحليل في إطار سياسات القوّة والمصلحة، بصرف النظر عن التكييفات النظرية المتعدّدة لهذه المنهاجية.
ورغم قناعتي أيضاً، بأننا لسنا بحاجة إلى استعارة أي نظرية من نظريات منهج التحليل الواقعي القائم على أساس القوّة والمصلحة، كما بلورتها الأطر الأكاديمية للعلاقات الدولية، لسبب بسيط يعود إلى اختلاف رؤيتنا للقوّة والمصلحة، ليس فقط بين مختلف البيئات الحضارية والحياتية والثقافية، كما هو الحال بين الشرق والغرب مثلاً، وبين أوروبا وآسيا على سبيل المثال؛ بل أيضاً لاختلافها بين بلدان المحيط الإقليمي نفسه، فما تكون فيه مصلحة للعراق قد لا يكون كذلك لتركيا أو إيران، وما يعكس مصلحة للسعودية قد لا يكون كذلك بالنسبة إلى الأردن أو الكويت، وهكذا.
لكن مع ذلك كله يمكن أن نستحضر من بين أبرز نظريات منهاج التحليل الواقعي في إطار المصلحة والقوّة، التكييف التقليدي للعالم الألماني الأصل المتجنّس أميركياً هانز مورجنتاو (1904ـ 1980م) صاحب المدوّنة المشهورة «السياسة بين الأمم»، ومؤلف كتابي «رجل العلم وسياسات القوّة» و»دفاعاً عن المصلحة القومية».
فجوهر ما يقرّره مورجنتاو في رؤيته لسلوك الدولة، بدبلوماسيتها وعلاقاتها الخارجية الإقليمية والدولية، أنها تتحرّك في سعي مستمرّ لزيادة قوّتها، واستثمار هذه القوّة وتوجيهها ضمن الإطار الذي تمليه مصالحها وستراتيجيتها بالدرجة الأولى.
بصرف النظر عن النقد الموجّه لهذه النظرية، من أنها أخفقت في التمييز بين المفاهيم المختلفة للقوّة (القوة كناتج سياسي، والقوّة كأداة، والقوّة كدافع محرّك)، وكذلك ما يُقال عن تبسيطها للمصلحة الوطنية وأنها لم تقدّم تحليلاً معمّقاً بهذا الشأن؛ فإن قاعدة الارتكاز تبقى صحيحة، إذ ما من شأن في السياسة الخارجية والعلاقات الإقليمية والدولية لأيّ دولة، إلا ويرتدّ إلى المصلحة والقوّة بدلالتيهما الواسعة العريضة، وهذا ما ينطبق تماماً على زيارة بايدن، وجميع الأطراف الداخلة فيها والمتماسّة معها والمتأثّرة بها، تأييداً أو رفضاً، وسلباً وإيجاباً.
 
تحليل الزيارة
القدر المتيقّن الجامع لمختلف التحليلات عن الزيارة، أرجع أهدافها إلى المحاور الخمسة التالية: محور الطاقة وتأمين المزيد من النفط والغاز بما يقلل من الضغط الداخلي على أميركا وأوروبا؛ دمج «إسرائيل» رسمياً وعلنياً في الهيكلية العسكرية والأمنية للمنطقة، ليس عبر التطبيع السياسي وحده، وإضافة حلقات نوعية جديدة لميثاق أو معاهدة إبراهيم، بل أيضاً عبر الجهد العسكري الميداني المباشر بين تل أبيب والعواصم الخليجية ومصر والأردن، وإلحاق العراق إن أمكن؛ احتواء إيران وتطويق محورها ومؤيديها، عبر معادلة الحد من النووي والصواريخ والمسيّرات والقوى التابعة؛ رابعاً: مواجهة ما أسمته واشنطن فراغ انسحابها من منطقة غرب آسيا، وعدم السماح تالياً لمحور الصين - روسيا (وبالأخصّ الصين) بالتمدّد إلى المنطقة وملء الفراغ؛ أخيراً: إيجاد شيء من الأمل داخل الواقع الفلسطيني، عبر إعادة الاعتبار لحلّ الدولتين، وإنعاش تكتيكي للوضع الفلسطيني، تجلى بمجموعة من الدالات الرسمية، من قبيل زيارة بايدن لمستشفى في القدس الشرقية، وحديثه العاطفي المتكرّر عن كرامة الإنسان الفلسطيني، وإعادة المعونات المالية في الشأن الصحي والتعليمي والإنساني، مما كانت إدارة ترامب السابقة قد أوقفته.
هذه المصفوفة من المحاور الخمسة أو أي تركيبة أخرى، تنتهي ببساطة ويسر إلى مركب القوّة والمصلحة، ومن ثمّ فهي انعكاس أمين للنظرية الواقعية في السياسة، مرّة أخرى بصرف النظر عن أحجام القوّة لكلّ طرف، والمصالح التي يعتبرها لنفسه، وما يؤدّي إليه ذلك من تفاوت واختلاف.
 
مقارنات ودلالات
على سبيل المثال، لاحظ كلّ من راقب زيارة بايدن، أنه أمضى وقتاً أطول في «إسرائيل» واللقاء مع مسؤوليها وبقية النشاطات، إذا ما قورن ذلك بما خصّصه للفلسطينيين مكاناً وزماناً ورموزاً ونشاطاً، وهذا أمر طبيعي جداً يعود إلى ميزان قوّة «إسرائيل» بالمقارنة مع الفلسطينيين، وإلى رؤية أميركا لـ»مصلحتها»، وتقديرها المختلف لهذه المصلحة بين الطرفين. 
كما لاحظتُ في مثال آخر، أن حجم ما استأنفه بايدن من معونات مالية أميركية للفلسطينيين، لم يبلغ نصف مليار دولار، بل هو دون ذلك بكثير (300 مليون دولار)، في حين سجّلت بيانات المعونة العسكرية التي تعهّدت بها واشنطن لتل أبيب، حصيلة تصل إلى (38) مليار دولار، وهذا تعبير آخر لاختلاف ميزان المصلحة والقوّة.
من الأمثلة على تفاوت المصلحة والقوّة، بدء زيارة بايدن من تل أبيب، وليس من السعودية، بل أكّد مراراً أن السعودية ليس هي الهدف من الزيارة، بقدر ما هي المشاركة في اللقاء التساعي (الأعضاء الستة في مجلس التعاون، بالإضافة إلى مصر والأردن والعراق) وكأنه يريد أن يوحي بأن هذه القمة التساعية، لو عُقدت في مكان آخر لذهب إليه بدلاً من السعودية.
بينما وجدنا أن زيارة سلفه دونالد ترامب عام 2017م قد انطلقت من السعودية.
في المقابل اختار سلف ترامب باراك أوباما القاهرة كنقطة انطلاق عام 2009م.
وهذه ليست أموراً شكلية أو اعتباطية، بل هي خطوات محسوبة تعكس اختلاف موازين القوّة، والتفاوت في المصلحة.
لكي تتعادل كفة الرؤية، فإن السعودية وإن قدّمت تنازلاً كبيراً أخذ الكثير من مكانتها وشأنها، بإعلان سلطة الطيران المدني فيها، فتح أجوائها أمام الطيران القادم من «إسرائيل»؛ إلا أنها كسرت في المقابل (فيتو الرئيس بايدن) في عدم اللقاء مع ولي العهد محمد بن سلمان، والأهمّ من ذلك أنها التقطت اللحظة الحرجة التي يعيشها بايدن على صعيد أزمة الطاقة والاقتصاد في الداخل الأميركي، بالإضافة إلى مخاطر الانتخابات النصفية ومصير الديموقراطيين القلق، لاسيّما أنها أجادت التلويح بورقة الصين وروسيا، ليس فقط على المستوى السياسي، بل أيضاً في مجال الاقتصاد، والأكثر حساسية من ذلك على المستوى العسكري، كما في مشروع الصين لتطوير القدرات الصاروخية للسعودية.
وإذا كانت السعودية قد خسرت جولتها في اليمن عبر الهدنة التي فرضتها عليها أميركا، كما أعلن بايدن عن ذلك صراحة في مقاله عن أهداف الزيارة في «الواشنطن بوست»، فإنها ما تزال تحتفظ تحت الطاولة بورقة التفاوض مع إيران، وهكذا إلى بقية الملفات المتداخلة بين الأمن والسياسة، والاقتصاد والطاقة، والشؤون العسكرية والإقليمية وغيرها.
 
سياسة المحاور
المقارنات أعلاه وغيرها كثير مما حفلت به زيارة بايدن، لا تكشف فقط عن استناد مجمل هذه النشاطات السياسية، إلى موازنة القوّة والمصلحة وحسب، بل فيها دلالة حاسمة على اختلاف شبه جذري لسياسة المحاور، بين مرحلة الحرب الباردة التقليدية إبّان النظام الدولي المزدوج القطبية، ما بعد مؤتمر يالطا عام 1945م، و سياسة المحاور الناشئة اليوم، في ظلّ السعي الحثيث لإيجاد تعدّدية قطبية في النظام العالمي الجديد.
وملاحظة أخرى قبل أن نختم ترتبط بمفهوم القوّة، فنحن لا نصرّ على عنصري التحوّل والسيولة في مرجعية القوّة وحسب؛ بل أيضاً بإمكان استعمالها والذكاء في توظيفها.
فقد لاحظتُ مثلاً على الجانب الإيراني (أحد أبرز المستهدفين بزيارة بايدن) استخفافاً بالتنسيق العسكري المرتقب بين تل أبيب وعواصم مجلس التعاون، لاسيّما في الإعلام الرسمي الثوري والشعاري، إذ استخفّ أصحاب هذا المنطق بالإمكانيات العسكرية المتواضعة لكلّ من الإمارات والبحرين، في ما ينبغي لأصحاب المنطق المستخفّ هذا، أن ينتبهوا بأنه لا وجه للمقارنة مثلاً بين إمكانات إيران في الغاز الطبيعي وذخائرها فيه، وإمكانيات قطر، ومع ذلك فلا وجه للمقارنة بتاتاً بين حضور قطر العالمي في سوق الغاز، وغياب إيران شبه الكامل عنه، عدا تركيا والعراق، وخدمات محدودة في آسيا الوسطى.
أخيراً، ثمة أفضل ما نستدلّ به على أن المنطقة مقبلة على سياسة المحاور، من زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طهران الثلاثاء القادم، مقابل زيارة الرئيس الأميركي التي انتهت تواً، لكن بشرط أن ننتبه دائماً إلى أن ستراتيجية المحاور هذه تختلف على نحوٍ كبير، في البُنية والقوّة والتأثير عن تلك التي كانت سائدة إبّان الحرب الباردة، وهذا ما سنعود إليه في مقال مستأنف إن شاء الله.