د.علي كريم خضير
إنَّ ما يمكن ملاحظته في كلمات الزعيم الراحل المرتجلة على المواطنين هو ذلك اللون من الأدبيات في السلوك، والخطاب الجماهيري الذي يوحي إليك وكأنك أمام إنسان واعظ أو حكيم، وليس أمام رجل سلطة عسكري يمتاز في الغالب بالغلظة في تعابيره اللغوية بفعل ما اعتادت عليه حياته من مواقف عصيِّة تقتضي ذلك الأسلوب.
وإذا كان الخطاب هو (أحد أشكال الممارسة الاجتماعية من وجهة نظر معينة)، فلاشك أن أهميته تغدو كبيرة جداً في ما لو صدر من شخصية محورية ذات تأثير اجتماعي، وقواعد شعبية واسعة ترى فيه المنقذ لتطلعاتها المنشودة. ولا نغالي في القول إنّ شخصية الزعيم الراحل قد نسجت بشأنها قصص قد تكون من ضرب الخيال، لما كانت تحمله تلك الشخصية من عناصر آسرة، لا سيما في قلوب الطبقات المستضعفة من الشعب.
وهو في كل جولاته الميدانية بين أبناء شعبه، وفي مناسبات رسمية، أو شبه رسمية كان يدعو إلى الوحدة الوطنية في إطار أخلاقي، عنوانه التآخي والتسامح والمحبة بين طوائف الشعب المختلفة، وهو يدرك أن تربية الأنسان هي من أجل ذاته ووجوده، حتى يمكنه متابعة تربيته الخاصة من دون الاستعانة بمساعدة الآخرين، وهو واجب تحتمه التحديات الحضارية، كي يتجاوز فيه قهر الإنسان للإنسان الآخر وتصفية معاناته والإنتقال به إلى عالم العدالة والقوة والمساواة. ويؤكد الزعيم الراحل ذلك بقوله في معرض زيارته لإحدى الكنائس في بغداد: (إنني أطلب من كل فرد، من كل الطوائف التي يتكون منها الشعب العراقي النبيل، مهما كانت لغته وعنصره ودينه أن ينسى الحزازات والأحقاد ويتسلح بخلق التعاون والتسامح). ويضيف في موضع إخر قائلاً: (إننا بحاجة إلى الرحمة ونحن نبتهل إلى الباري عز وجل أن ينعم علينا برحمته وينزع القسوة من قلوبنا، فنحن أخوان أينما كنَّا). وقد يوجه الخطاب نفسه إلى الصحفيين والأساتذة والمعلمين والتلاميذ في مناسبات أخرى بلغة شفّافة، تنمُّ عن مضمونها بسهولةٍ ويسر، وقد اتسمت بخصائص الخطاب التربوي من نحو التأكيد على الذاتية بين المتحدث والسامع، وتكرار الضمائر (ضمير المتكلم والمخاطب أنا، نحن، أنت، أنتم) مما يعزز فكرة العلاقة.
فهو يخاطب الصحفيين قائلاً : (إن سمو الخلق وسمو الرفعة والمكانة لأبناء هذا الشعب يتوقف عليكم، أنتم أبناء الصحافة وعلى ما تسدونه من العون لأبناء هذا الشعب، فأنتم رسل التقارب بين أبناء الشعب الواحد، وأنتم رسل التقارب والمحبة والمودة بين أبناء الأمة العربية في جميع دولها ومناطقها وحدودها في أرض الوطن العربي الكريم).
وهو يخاطب الطلبة قائلاً: (قديماً كان يقال: مَن علمني حرفاً ملكني عبداً، ومعنى ذلك؛ أنَّ الذي يملكني وأنا حرٌّ سيملك مشاعري ويملك اتجاهي نحوه، ولا شكَّ أن ذلك يكون بالأدب الجمِّ وبما تبدونه من المشاعر التي يفرح لها أساتذتكم ومعلموكم). ومن عادة الزعيم الراحل الإصرار على موقفه في اشاعة هذه الرسالة الأخلاقية بين أبناء المجتمع، ولا يشعر بالقنوط من عدم تمثّلها للوهلة الأولى، إذ يقول: (إنني أسعى لخير المجموع مهما كان نوعه، فهم أخواني فإن ضلَّ أحدهم الطريق فإنني أسعى إلى نصحه وإعادته إلى طريق الرشاد).
هذه هي المنهجية التي كان يحكم بها الزعيم الراحل، وهذا هو الأسلوب الذي لم يكن القوميون الذين زرعوا العنصرية والفرقة بين أبناء المجتمع العراقي في ما بعد، من تقبله والركون إليه؛ لأنه لا يخدم مآربهم الشوفينية في التسلط والقسوة وخداع الشعوب العربية بشعارات زائفة.