عندما كنا نرى شخصا " يهلوس" في حديثه وتصرفاته بوضع خارج عن طبيعة الإنسان وفطرته في سلوكه اليومي نقول إنه "محشش" أي يتناول الحشيشة، وهي نوع من أنواع المخدرات في بدايتها، بعد ذلك تطور الأمر إلى وصف مثل هذه الحالات بـ" المكبسل"، أي أنه يتناول حبوبا مخدرة تؤدي في أغلبها إلى الهلوسة وخروج الإنسان في تصرفاته وسلوكه عن الوضع الطبيعي، وكانت هذه الحالات قليلة جدا بحيث أنها مشخصة بالأفراد الذين يتعاطونها، وبطبيعة الحال هم محل نفور من قبل أفراد المجتمع عامة.
في السنوات الأخيرة تنامت هذه الحالات إلى ما يشبه الظاهرة في بعض المناطق وبعض الأعمار والطبقات، الأمر الذي ينذر بكارثة خطيرة تتسارع بشكل لافت، تقابلها معالجات لم ترتق إلى مستوى حجم هذا الخطر وتحولاته الاجتماعية، نعم الأجهزة الأمنية تعمل ليل نهار والمؤسسات الحكومية لم تأل جهدا في مواجهتها، لكن " الحالة" استفحلت كثيرا، لاسيما عندما أصبحت تجارة رائجة تدر أموالا خيالية على أصحابها بوقت قصير جدا، مع وجود ممكنات عدة لاستمرار هذه التجارة بالرغم من اعتقال العديد من تجارها، لذا شاهدنا كيف يستقتل تجارها بالدفاع عن تجارتهم وأنفسهم إذا ما دهمتهم الأجهزة الأمنية بالتصدي المسلح للقوة الأمنية التي تهاجمهم وكأن الأمر لديهم قصة حياة مع تجارة مخدرات وأرباح طائلة أو موت، وقدمنا في سبيل ذلك عشرات الشهداء من منتسبي قواتنا الأمنية البطلة وحتى بعض القضاة كما حصل في محافظة ميسان.
أسباب استفحال ظاهرة انتشار المخدرات كثيرة، تبدأ بغياب الوعي والتعليم ولا تنتهي بالبطالة وعدم الاستقرار السياسي والأمني، ومواجهة هذه الظاهرة ممكنة إذا امتلكنا جميعا الإرادة الحقيقية لمواجهتها، وهذه المواجهة أو المعالجة لا تختص بجهة حكومية معينة دون سواها، وكذلك لا تختص بقطاع دون سواه، فكل "فاعل" في المجتمع سواء كان فردا أو مؤسسة تقع عليه مسؤولية المواجهة من الأسرة التي تشكل النواة الأولى للتنشئة الاجتماعية إلى المدرسة والجامعة إلى المنظمات الثقافية والفكرية والدينية والاجتماعية، إلى العشائر الكريمة، إلى النخب الأكاديمية، إلى رجال الدين والمنبر الديني، إلى الإعلام بمؤسساته وأشكاله ومتصديه كافة.
المواجهة بحاجة إلى جهد جماعي، لا انتظار جهد فردي من هنا وهناك، والأهم من كل ذلك نحن بحاجة إلى ستراتيجية وطنية شاملة لهذه المواجهة التي لا تقل شأنا عن خطر الإرهاب وداعش وكل أشكال الترهيب والقتل، نحن بحاجة إلى تلك الستراتيجية في سبيل ضمان نجاح المواجهة وشموليتها إزاء هذا الخطر الكبير، وهذه الستراتيجية لابد من أن تبدأ بها الأجهزة الرسمية أمنية كانت أو مدنية بالتعاون مع ذوي الاختصاص من الأكاديميين في هذا الشأن وإعلان حالة النفير العام لتطبيق هذه المواجهة وفق تشريعات قانونية ضامنة لنجاحها وإرادة سياسية تكفل ديمومتها وعدم خرقها إذا وصلت المواجهة إلى متنفذين كبار، تجارا كانوا أو متعاطين.
فما يحصل اليوم من مناكفات سياسية لا بد من أن لا تلهينا جميعا مؤسسات وأفرادا عن تلك الستراتيجية التي تضمن نجاح المواجهة، وإلا سنجد المحششين والمكبسلين والمخَدرين بيننا في عوائلنا جميعا وحينها لا ينفع الندم ولا تنفع المواجهة.