أحمد عبد الحسين
يعود الفضل لنيتشه في اجتراح مصطلح "غريزة الاضطغان"، وأراد به قدرة الضغينة على أن تكون مادة لخطابٍ يبدو متماسكاً منطقياً ومليئاً بالأخلاق والنبل لكنه في جوهره ارتكاسيّ مؤسسٌ على الكراهية وحدها. في شرحه لهذا الاصطلاح كتب دولوز هذه الجملة العظيمة "كلّ كتابة من أجل الإدانة هي أدنى من أن تكون كتابة". مراده أن كتابة تستحق اسمها متوجهة بالضرورة إلى إثبات ما بحوزتها، وتفقد هذا الاسم شيئاً فشيئاً كلما توجّهتْ إلى "واقتصرت على" إدانة ما في حوزة آخرين.
أحسب أن هذا الاصطلاح، فهمه والتدبّر فيه، يصلح لقراءة التحليلات والشروحات والتعليقات السياسية التي يسطّرها محللون وناشطون عراقيون.
مع كلّ حدث ينشغل هؤلاء المحللون بزملائهم ـ غرمائهم لا بالحدث نفسه. تنبهتُ أمس إلى ردود الفعل في الفضائيات ووسائل التواصل على خبر ترشيح "الإطار التنسيقي" لرئيس وزراء مقبل. أغلبُ ما كتب وما قيل لم يعدُ كونه لوماً لآخرين أو تشفياً بهم، وفي التشفي واللوم لؤمٌ يريد أن يعبّر عن نفسه في كتابة تحاول الظهور بمظهر التحليل أو القراءة.
كتب ناشطٌ مقرّعاً ناشطين "هذه نتيجة مقاطعة الانتخابات"، ردّ آخر "وماذا كنتم تتوقعون حين شاركتم أنتم في الانتخابات؟"، والحقيقة أنّ بقاء العملية السياسيّة على حالها ليس مردّه مشاركة الناشطين أو مقاطعتهم، فإذا كانت المشاركة أسهمتْ في إبقاء الحال على ما هي عليه، فإنّ المقاطعة لم تكنْ تأتي بجديدٍ سوى في رمزيتها الاحتجاجية لا أكثر، وهذه الرمزية ـ برغم أهميتها ـ لن تؤثر في النتيجة التي يسهم في صياغتها مال وفير وسلاح وسلطة ونفوذ وعلاقات إقليمية ودولية وخطاب شعبويّ، وكلّها موارد لا يملكها الناشط المشارك ولا غريمه المقاطع.
يسهّل المعارضون المهمة على أهل الحكم حين ينشغل بعضهم بالبعض الآخر، لوماً ولؤماً وتشفياً واستذكار عداوات واستحضار دفاتر قديمة في مباراة عبثية للوصول إلى المعارض الأنقى والأصفى وتتويجه لاحقاً بجائزة الناشط المثاليّ.
مع كلّ خبر عاجلٍ تستيقظ غريزة اضطغانٍ على هيأة كتابات وبوستات وتصريحات يراد منها استيفاء ضغينةٍ لم تستوفَ جيداً فلم يتمّ إشباعها. هذا سبب انسداد النشاط المعارض الذي هو أشدّ من انسداد وانغلاق العملية السياسية. لأنّ كل ما نكتبه ونقوله يصلح للتشفي لا للشفاء.