أحمد عبد الحسين
النجف مركز التشيّع في العالم منذ أن انتقل شيخ الطائفة الطوسيّ إليها هارباً من بغداد سنة 448 هجرية /1056 ميلادية. من يومها فقدتْ بغداد أهميتها كمرجعية شيعية وبقيتْ كما كانتْ من قبلُ ومن بعدُ مساحة جغرافية لصراع دائم، بين الطائفتين حيناً وبين الإيرانيين والترك أحياناً وبين الطامعين في الحكم أغلب
الأحيان.
الرمزية التي كانت في هجرة الطوسيّ عظيمة. هجم الغوغاء على داره وأحرقوا مكتبته التي قال عنها ياقوت الحموي "لم يكن يومها مكتبة أعظم منها"، التهمتْ النيران المنبر الذي كان يلقي عليه دروسه وحين وصلت إلى ثيابه نفضها سريعاً، ركب راحلته وتوجّه إلى النجف، إلى مدينة تتوالى عليها القرون ولا يكبر ولا يتوسع فيها شيء أكبر من "وادي السلام".
تعرف النجف كيف تحمي كنوزها تحت الأرض، وتعرف كيف تحرس ودائعها من التلف. وديعتها الأكبر "المذهب الشيعي" ظلّ محفوظاً هناك والناس يتخطفون في المدن القريبة والبعيدة والقلاقل والفتن تعصف بالعراق كله.
أندهش حين أسمع أو أقرأ لأحد يتحدث عن ضرورة "حماية المذهب" أو "الحفاظ على الطائفة" مستحضراً جيوشاً وقعقعة سلاح، وأنا أعرف أن بيتاً صغيراً بإزاء مرقد أمير المؤمنين اخترق القرون المضطربة تلو القرون كانت الوديعة الكبرى تنتقل فيه بأيدي الورثة سليمة صافية.
لا أعرف على وجه التحديد ممَّ يتخوّف الخائف، كنوز النجف التي ما هي بكنوز الذهب والفضة مدفونة في وادي السلام، وكنوزها المعرفية مدفونة في الكتب وفي صدور الطلبة الذين ما انقطعوا عنها حتى حين أسلم العسس العباسيّ مهمة المراقبة وكتابة التقارير للعسس العثماني الذين أسلموا المهمة للعسس البعثيّ الذين انقرضوا جميعاً وظلتْ النجف.
الذين يكررون موشح الخوف على الطائفة عليهم معرفة أن بغداد لم تزل مساحة جغرافية للصراع، وربما كان هذا قدرها، لكنه قدرهم أيضاً أن يتصارعوا على المغانم مالاً وسلطة وجاهاً ونفوذاً. ومن كان صادقاً منهم حقاً فعليه ـ حين تصل النار إلى ثيابه ـ أن يفعل ما فعله الطوسيّ، ينفض ثيابه ويتوجّه فوراً إلى النجف!