فراغ المحتوى

الصفحة الاخيرة 2023/01/02
...

عبد الهادي مهودر

بات تداول مفردة (المحتوى) مضحكاً من فرط التناقض بين المتحدثين عنه وبين الناتج الوهمي الخالي من أي محتوى، وأصبحنا بوعي ومن دون وعي، مساهمين بصناعة الفراغ وتحويل الفارغين إلى مشاهير تفرضهم علينا وسائل الإعلام والجماعات المسيطرة ويشغلون الجمهور بتمثيليات المصارعة الحرة الاستعراضية، وإذا كان هناك إجماع عالمي على شيء في هذا العصر فالكل مجمع على أنه عصر التفاهة، أو (نظام التفاهة) كما يصفه (آلان دونو) في كتابه الشهير، إذ يضع هذا الفيلسوف يده على العوامل التي تؤدي إلى ترميز التافهين، أي جعلهم رموزاً اجتماعية، وإلى صعود الابتذال بسبب تخلي النخب والتنظيمات النقابية والجامعات عن دورها ومسؤولياتها وتحولها إلى جهات منتجة للرداءة وصانعة لأشباه الأساتذة والمثقفين، والقارئ لهذا الكتاب يشعر بوجود تشابه كبير مع واقعه، مثل شعور المواطن الذي يبكي على قصته عندما يسمعها من كاتب العرائض، وفي تسعينيات القرن الماضي صدر كتاب (زمن فيفي عبدة) للصحفي المصري عماد ناصيف عن صور الفساد في المجتمع وغياب العدالة الذي أدى إلى أن تصبح الراقصات (والفاشينستات) القدوة والمثل الأعلى وتتقاضى الراقصة في الليلة الواحدة أضعاف الأجور التي تحصل عليها الباحثة العلمية في المركز القومي للبحوث في عامٍ كامل، ولا غرابة أن يبلغ عدد متابعي هذا النوع من المشاهير ملايين المعجبين وتتحول صفحاتهم الشخصية إلى نقاط جذب ومساحات إعلانية مدرّة للأرباح في حين تضعف الجبهة المقابلة في مواجهة التفاهة التي أصبحت هي القاعدة والرصانة هي الاستثناء، وبات من يفكر بالتصدي والسير عكس التيار معزولاً أو يحصل على عدة (لايكات) في أحسن الأحوال ويخرج مخذولاً مكسور الوجدان، وقد وصل الحال بالمبدعين والموهوبين الحقيقيين إلى الانزواء واختيار العزلة الطوعية واختلاق الأعذار لتجنب الحضور والاختلاط بسبب المساواة الظالمة مع المبدعين الوهميين التي تحصل على منصات التكريم في شهر التصفيق الحار والولائم الوهمية الشبيهة بوليمة (جحا) التي أشاعها للتخلص من ازعاج الصبية الذين يلعبون أمام داره لكنه صدّق كذبته وركض معهم نحو مكان الوليمة الوهمية، وقبل ذلك كان النساجون المحتالون الذي اشتهروا في قصة ملابس الإمبراطور وأخرجوه عارياً، مع فارق الهدف بين نسّاجي الأمس واليوم، وفي هذا الزمان يسهم النساجون المحتالون بزيادة اختلال الموازين والإصرار على رسم لوحة الفراغ في معرض اللا شيء، وما علينا إلا الوقوف أمام اللوحة الفارغة مبهورين ومصدّقين بأن اللوحة عظيمة والمحتوى عظيم.