الناصرية: نجلاء الخالدي
خلف ابتسامتها ووجها السومري الجميل تخفي التلميذة "وردة" ذات السبعة أعوام، قصة إصرار لا يلين على مواصلة دراستها، متحدية كل الصعوبات التي تواجهها في حياتها بهور الحمار الغربي، وقهر ظروف تفرضها عليها تلك الطبيعة المتأثرة بعوامل تغير المناخ، إذ أرغمت عائلتها على التنقل من مكان لآخر، بحثاً عن المياه التي نضبت في الأهوار.
على متن مشحوف صغير يشق طريقه بصعوبة في المياه الضحلة في الهور بفعل الجفاف، الذي ضرب هذه المنطقة. تبدأ "وردة" رحلتها اليومية إلى المدرسة بحماس وفرح غامر يرتسم على وجهها مرتدية زيها الموحد الجميل، وحاملة على كتفها الغض حقيبة مدرسية تحتوي على كتبها وقرطاسيتها ومتاعها.
خلال السنوات الأخيرة اضطرت عائلتها، التي تمتهن تربية الجاموس إلى تغيير سكنها والانتقال قريباً من الأنهار، ومع هذا فإنها لم تتأخر عن دراستها المتفوقة فيها وتحقق أفضل الدرجات في جميع الامتحانات، لتحظى بحب واعجاب معلميها، الذين لايتوانون عن تقديم كل الدعم لهذه التلميذة المثابرة.
عشرة كيلو مترات أو ثلاثة كيلو مترات مهما قصرت أو بعدت المسافة، فأنها لن تمنع "وردة" عن الذهاب لمدرستها، ولحسن الحظ فإن عائلتها تساند ابنتها وتؤمن بأحقيتها في شق حياة جديدة ومختلفة عن حياتهم، ويتبادل الأب وأبناؤه إيصالها إلى المدرسة يوميا.
ورغم بعد الطريق وصعوبته فإنها اعتادت على النهوض مبكراً، والوصول إلى المدرسة قبل زملائها الذين تجاور بيوتهم مدرستها، ولم يمنعها تفوقها واهتمامها بدروسها وحرصها على المواظبة على الدوام في كل الظروف، من مساعدة عائلتها في أعمالهم اليومية التي تتطلبها بيئة الأهوار، كقص البردي والقصب وجمع الوقود من النباتات المتيبسة وحتى في الأعمال المنزلية.
لا تخفي الفتاة السومرية شغفها بالألوان والرسم، مع أنها لا تمتلك إلا دفتراً صغيراً واحداً للرسم، تخشى أن تخسر المزيد من وريقاته.. تبدع وردة في دمج الواقع بالخيال، فصور منزلها القصبي الذي يطفو فوق الماء حاضرة دائما في رسوماتها، إلا أن المنازل الجميلة المبنية من الطابوق والمطلة على ضفاف الفرات تغريها أيضاً. وفي إحدى اللوحات حاولت أن تمزج بين بيت المدينة ومنزلها القصبي في أقصى هور الحمار الغربي، ثم ما تلبث أن تعود إلى واقعها، فتجسد رحلتها الصباحية عبر "الشختورة" إلى مدرستها في المدينة، وتروي لزملائها الذين ينتظرون قدومها يومياً، القصص المثيرة عن الهور والحيوانات الغريبة والنسور المحلقة في السماء، فيزاد حماس الصغار، طالبين منها بالمزيد من التوضيح عن تلك المخلوقات العجيبة، التي تعيش في أعماق الهور.
عندما سألنا "وردة" كيف يمكن أن نساعدها، وماذا تريد أن نقدم لها، صمتت قليلاً قبل أن تجيب، ثم قالت بخجل: هل يمكن أن أحصل على دفاتر جديدة وألوان، فعلى الرغم من أن والدي يبذل قصارى جهده لأواصل مشواري الدراسي، إلا أن ذلك يمثل عبئاً عليه، فنحن عائلة كبيرة والحياة في الأهوار ليست على ما يرام في الأشهر الماضية بعد الجفاف الذي ضربها.
ويقول الناشط البيئي في مدينة الجبابيش أياد الأسدي لـ "الصباح": لا تتوفر في مناطق الأهوار مدارس أو مراكز صحية حتى المتنقلة منها، لذا فإن أغلب الأطفال لا يذهبون إلى المدارس، وبالتالي فإن أغلبهم لا يجيدون القراءة والكتابة، على عكس الأجيال السابقة من الأهواريين، الذين كانوا يتعلمون القراءة والكتابة من برامج محو الأمية.
ويشير الأسدي إلى أن الأهالي منذ سنوات يتلقون وعوداً في عودة "برامج محو الأمية"، إلا أن ذلك لم يحدث
كحال المشاريع الأخرى التي لم تنفذ في الأهوار.