د. سعد محسن ناجي*
تعطلت الأنشطة التجارية والإنتاجية كافة للشركات متعددة الجنسيات،التي تنوعت استثماراتها في السلسلة العالمية للتزويد نتيجة جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، ما أدى إلى نقاش معمق وجدي في المراكز البحثية الاقتصادية الرصينة حول أهمية وصلاحية سلاسل القيمة العالمية (GVCs)؛ حيث تقع المراحل المختلفة لعملية الإنتاج عبر بلدان مختلفة في مواجهة أزمات عميقة بعد التيقن من مخاطر نقل التصنيع بعيدا عن بلدان
الاستهلاك.
البيانات الاقتصادية حتى الآن لا تدعم الجهوية المتزايدة في التنمية الاقتصادية المستدامة، ولكن الحاجة إلى تفضيل المزيد من البصمة الإقليمية للصناعات ستزداد في بعض القطاعات الستراتيجية، بشكل عام، اعتبر الخبراء الاقتصاديون أن السياسات الاقتصادية الناجمة عن إزالة الكربون يمكن أن يتحقق جزءا كبيرا منها بالانتقال من العولمة إلى الإقليمية، وهو الهدف الأهم إلحاحا في الوقت الحاضر.
هنا يطرح تساؤل مهم، هل سلسلة القيمة العالمية ستتحول إلى إقليمية أم ستتغير إلى عالمية جديدة بعد إعادة هيكلتها؟
وصفت منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي (OECD) الهيكلة الإقليمية أو التقريب المكاني، أنها قرار نقل الأنشطة التي تم نقلها في السابق إلى الخارج البعيد زمن ازدهار العولمة وأن إعادة نقلها إلى بلدان إقليمية أقرب وليس من الضرورة العودة إلى موطن الشركة الأصلي، بعد سنوات من ازدهار العولمة، أصبحت الشركات تبحث بشكل متزايد عن ستراتيجيات إنتاجية ومصادر أكثر تنوعًا وتفكر في المزيد من الخيارات لهيكلة عمليات الإنتاج الخاصة بها، آخذين في الاعتبار البيئة المتغيرة بسبب الحكومات مثل الحرب في أوكرانيا أو الأزمات غير المتوقعة مثل جائحة “كوفيد- 19”، بعد ملاحظة ظهور قيود للعرض السلعي الاقتصادي متدنية وخطيرة جدا عانت منها البشرية جميعا أثناء الجائحة والحرب، والتي تتطلب قوة وجهدا متزايدين لتمتين وتحصين سلاسل التوريد.
لذا، وجب عمل تغييرات هيكلية لسلاسل التوريد بناء على احتياجات المستهلكين الذين أصبحوا محركا أكثر تأثيرا في سلسلة القيمة التصنيعية، وأصبح المستهلك يطالب بمنتجات أكثر تخصيصا لها قدر أكبر من القرب والمرونة في الإنتاج، كل هذا أدى إلى زيادة التكاليف اللوجستية، خاصة مع معايير الاستدامة والحاجة إلى مراعاة ظروف العمل الأفضل وتقليل البصمة الكربونية لتحقق على الأقل الأهداف المتواضعة لقمة المناخ “كوب 27”.
إن تطوير تقنيات جديدة، مع زيادة الروبوتات لتحل محل العمالة الماهرة منخفضة التكلفة، يجعل سلاسل القيمة الإقليمية أكثر جاذبية.
ويقدر خبراء ماكنزي (وهي واحدة من أكبر ثلاث شركات استشارية ستراتيجية إدارية في العالم)، أن الأتمتة والذكاء الاصطناعي والتصنيع الإضافي يمكن أن تقلل التجارة العالمية في السلع بنسبة تصل إلى 10 % بحلول العام 2030.
ومن جهة أخرى، يذكر خبراء ماكنزي رأيا آخر بالإقليمية، ويرون أن من الأفضل إعادة التصورات بما يخص العولمة بدلا من التراجع عنها، وهذا ما ذكر في مؤتمر سنغافورة للاقتصاد الجديد 2022؛ حيث وجد الحاجة إلى استمرار التعاون العالمي، إذ يجد الباحثون أنه لا توجد منطقة ولا توجد اليوم دولة هي نموذج للجزيرة الإنتاجية السحرية.
وتم تقديم بعض النماذج على ما ذكر؛ حيث يقدر الخبراء أن ما يصل إلى 10 إلى 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي يعتمد تماما على البقاء على اتصال بدول العولمة التي تشكل سلسلة التزويد العالمية الحالية.
إضافة إلى ذلك، عندما نفكر في مشكلات العالم الأكثر تعقيدًا- المناخ والصحة والأمن والابتكار- ليس لدينا أمل في حل هذه المشكلات بشكل فردي مستقل.
هذه هي المشكلات التي تتطلب التعاون وليس الانفصال، ولا يمكن حل مشكلة عدم توافق العرض والطلب في العالم بشكل فردي.
إذا نظرنا إلى العام 2050 وأخذنا أوروبا والصين وحدهما، فسوف تفقد هذه البلدان 120 مليون عامل من القوى العاملة بحلول العام 2050.
إن الأماكن الوحيدة التي يمكن أن تأمل في تحقيق ذلك الانفصال عن العولمة في سلسلة التوريد هي الهند وأفريقيا، هذا يتطلب تعاونا واستثمارا هائلا وكبيرا من بلدان الاستهلاك، كما يجدر بالذكر أن تكاليف العمالة الصناعية ازدادت في الصين والمكسيك وفيتنام في الساعة بنحو 30 %، ومع ذلك، فإنها تظل 75 % أقل مما كانت عليه في القطاع نفسه في الولايات المتحدة مثلا.
أخيرا، فإن أهم مؤشر سيحسم هذا الجدال هو قضايا الأمن القومي للدول والمتعلقة بتوريد السلع الاستراتيجية سواء في مجال التكنولوجيا أو الرعاية الصحية، نحن نجد أننا نشاهد تكويناً جديداً لسلاسل التوريد يمزج بين العولمة والإقليمية، يجب الآن الاعتراف الواضح بأن العالم أصبح بعد الجائحة والحرب الأوكرانية مختلفا تماما عما قبلها.
*نائب رئيس مجلس الأعمال العراقي في الأردن