قيمٌ ما بعد الإنسانية

منصة 2023/01/15
...

  Nick  Bostrom* 

  ترجمة. د. فارس عزيز المدرس 

مِن العسير أن نجدَ مرادفاً يفي - بلا لَبسٍ - التعبيرَ عن مصطلح ما بعد الإنسانية Transhumanist، فهذا المصطلحُ مكون مِن اللاحقةِ Trans التي تدخل على الأسماء، لتعطيها بعداً زمنياً، ومِن اللفظةِ Humanist التي تعني إنسانيا. لذلك تلزم الإشارة إلى أن المصطلح لا دخلَ له بالبعد الأخلاقيِّ لمعنى (إنساني)، حتى وإنْ احتوى على شيءٍ مِنه. 

وهذه الإشكاليةُ غيرُ مقتصرةٍ على الترجمةِ العربية، بل هي قائمةٌ حتى في الإنكليزية، لذلك آثرتُ استخدامَ (ما بعد الإنسان) أحياناً، لنزعِ اللّبسِ عن المصطلح ... المترجم.

1 - ما هي ما بعد الإنسانية؟

ما بعد الإنسانِيةِ حركةٌ فضفاضةُ التعريف تطوّرت تدريجياً على مدى العقدين الماضيين، وهي تشجع على اتباع نهجٍ متعددِ التخصصات، لفهم وتقييم فرصِ تعزيز الوجود البشري. حيث توسّعتْ أفق الكائن البشري من خلال تقدم التكنولوجيا، مثل الهندسة الوراثية وتكنولوجيا المعلومات، والتقنيات المستقبلية، كتقنية النانو الجزيئية والذكاء الصناعي.

وتشمل خياراتُ التعزيزِ هذه الدعمَ الجذري لصحةِ الإنسان، والقضاءَ على المرض والمعاناة غير الضرورية، وزيادةَ القدراتِ العقلية والجسدية والعاطفية للإنسان. وتشمل أيضاً استعمارَ الفضاء، وإمكانيةَ إنشاء آلاتٍ فائقةِ الذكاء، إلى جانب التطوراتِ المحتملة الأخرى؛ التي يمكن أنْ تغيرَ حالةَ الإنسان بشكل جذري.

وينظر أنصارُ حركةِ ما بعد الإنسان إلى الطبيعة البشرية على أنها عملٌ قيدُ التقدّم، وبدايةٌ نِصف مَخبوزة، يمكننا أنْ نتعلمَ منها كيف نعيد صياغتَها بطرق مرغوبة. إذ يجب ألا تكون حياةُ الإنسانِ الحاليةِ نهايةَ التطور، بل المؤمّلُ أنْ ننجحَ في نهاية المطاف في أنْ نصبحَ كائناتٍ تتمتّع بقدراتٍ أكبر بكثير من البشر الحاليين. 

وعلى النقيض مِن وجهاتِ النظر الأخلاقية الأخرى، والتي غالباً ما تعكس موقفًا رجعياً تجاه التقنيات الجديدة، فإنَّ وجهةَ نظر ما بعد الإنسان تسترشد برؤيةٍ متطوّرةٍ تعمل على اتخاذ نهجٍ أكثر استباقية لسياسةِ التكنولوجيا. وهذه الرؤية بشكلٍ عام تتمثّلُ بإيجادِ فرصٍ للعيشِ أطول وأكثر صحة، وتعزّز قدراتنا الفكرية، وتحسّن تجاربنا العاطفية، وتزيد مِن إحساسنا الذاتي بالرفاهية. 

ولا تستلزم حركةُ ما بعد الإنسان التفاؤلَ التكنولوجي المطلق. صحيح أنّ القدراتِ التكنولوجية المستقبلية تحمل إمكانياتٍ هائلة لعمليات التطور المفيدة؛ لكن يمكن لإساءةِ استخدامِها إحداثُ أضرارٍ جسيمة، مما يؤدي إلى احتمالِ انقراض الحياة الذكية. وتشمل النتائج السلبية المحتملة اتساعَ التفاوتِ الاجتماعي، أو التآكل التدريجي للأصول التي يصعب تحديدها كمّياً، والتي نهتم بها بشدة؛ ولكننا نميل إلى إهمالِها في نضالنا اليومي؛ مِن أجلِ المكاسب المادية، مِثل العلاقات الإنسانية ذات المغزى والتنوّع البيئي، لذا يجب أنْ تؤخذَ هذه المخاطرُ على مَحمل الجدِّ، كما يقـرُّ أنصار هذه الحركة.

2 - القيود البشريَّة 

مِن المفترض أنّ مجموعةَ الأفكار والمشاعر والتجاربِ التي يمكن للكائنات البشرية الوصول إليها لا تشكّلُ سوى جزءٍ صغيرٍ مما هو ممكن. ولا يوجد سببٌ للاعتقادِ بأنّ الوجودَ البشريّ أكثرُ خلوّا من القيود التي تفرضها طبيعتنا البيولوجية مما هو عليه الحال لدى الحيوانات. فبالطريقة نفسها التي يفتقر فيها الشمبانزي إلى الوسائل المعرفيّة لفهم بيئته، قد يجهل الإنسانُ أيضاً ما يعنيه أنْ تكون لديه طموحاتٌ أو فلسفات، أو تعقيدات مجتمعية، أو تفاصيلُ دقيقة لعلاقاتِه مع بني جنسه. 

لذلك نحن البشر قد نفتقرُ إلى القدرةِ على تكوين فهمٍ واقعيّ لإمكانيةِ أنْ يكون الإنسانُ معززاً بشكل جذري، مع أنَّ قدرات الوجود البشري منتشرةٌ ومألوفة، إلى درجة أننا غالباً ما نفشل في ملاحظتها، والتشكيك فيها يتطلّب منا إظهارَ سذاجةٍ شبه طفولية، فدعونا نفكّر في بعض هذه القدرات:


القدرةُ الفكرية

مررنا جميعاً بلحظاتٍ كنا نتمنّى فيها أنْ نكونَ أكثر ذكاءً، ويمكن لآلةِ التفكير الشبيهة بالجِبن التي تزن ثلاثةَ أرطال - والتي نحرّكها في جماجمنا- أنْ تقوم ببعضِ الحيل الأنيقة، ولكنها أيضاً فيها عيوبٌ كبيرة. وهذه النواقص هي مضايقات، لكنها ليست عوائق أساسية للتنمية البشرية.

ومع ذلك فهناك شعورٌ أكثر عمقاً في قيود أجهزتنا الفكرية التي تحدّ مِن أنماط عقولنا. وقد ذكرنا مَثلَ الشمبانزي كمنوذج بالنسبة للقردة العليا، وكذلك الحال مع تركيبتنا المعرفية التي قد تمنع طبقات كاملة مِن الفهم والنشاط العقلي مِن الاشتغال.


  الوظائف الجسديَّة

  إننا نعزّزُ مناعتنا مِن خلال الحصول على اللقاحات، ويمكننا أنْ نتخيلَ المزيدَ مِن التحسيناتِ التي تحمينا مِن الأمراض، أو تساعدنا على تشكيل أجسامنا وفقاً لرغباتنا، (على سبيل المثال عن طريق السماح بالتحكم في معدل التمثيل الغذائي في 

أجسامنا). 

ومثل هذه التعزيزات يمكن أنْ تحسّنَ نوعيةَ حياتِنا، فقد يمكن تطوير نوع أكثر جذرية، إذا افترضنا وجهة نظر حسابية تمكّننا من تحميل عقل بشري على جهاز كمبيوتر، عن طريق تكرار العمليات الحسابية التفصيلية التي تحدث عادة في دماغ بشري محفوظ في السيليكون؛ للحصول على العديد من المزايا المحتملة، مثل القدرةِ على عمل نسخٍ احتياطية له، مِما يؤثر بشكلٍ إيجابي في العمر المتوقع للفرد، والقدرة على نقل معلومات الدماغ بسرعة الضوء. 

ولمّا كان البشرُ يتمتّعون بمجموعةٍ مِن الصفات مثل الانفعال بالموسيقى وروح الدعابة، والحساسيات الأخرى، كالقدرةِ على الإثارة الجنسية والاستجابة للمثيرات، فلا يوجد سببٌ للاعتقاد بأنَّ ما لدينا يستنفد نطاقَ الممكن، بل يمكننا تخيّل مستوياتٍ أعلى مِن الحساسية والاستجابة.

٣- القيمة الأساسية لِما بعد الإنسان

  إنَّ التخمينَ القائل بأنّ هناك قيماً أكبر مما يمكننا فهمه حاليا، لا يعني أنّ القيمَ لم يتمّ تعريفها من حيث ميولنا الحالية. خذْ على سبيل المثال نظريةَ التصرّف في القيمةِ؛ كتلك التي وصفها ديفيد لويس، فوفقاً لنظريته يكون الشيء ذا قيمةٍ بالنسبة لك فقط، إذا كنتَ تريده؛ وكنت على درايةٍ به تماما، وتفكّر فيه، وتتداوله بأكبر قدْر ممكن من الوضوح. 

ووفقاً لوجهة نظر لويس قد تكون هناك قيمٌ لا نريدها حاليا، بسبب عدم درايتنا بها. وقد تكون بعضُ القيم المتعلقة بأشكال معينة من قيم ما بعد الإنسان من هذا النوع، ومع ذلك فقد لا نتمكن مِن تقييمها بقدراتنا المحدودة الحالية؛ نظراً لافتقارنا إلى الكليات المستقبلة للتعرّف الكامل عليها. 

هذه النقطة توضح وجهة نظر مفادها: يجب استكشاف قيمِ ما بعد الإنسان أولاً. وهذا لا يستلزم التخلّي عن قيمنا الحالية، بل يمكن أنْ تكون قيمُ ما بعد الإنسان قيماً مستقبلية لنا، وإنْ بدتْ الآن قيماً لمّا نفهمها بوضوح بعدُ، لكن يمكننا التغلب على العديد من قيودنا، ومن الممكن وجود بعض القيود التي يستحيل علينا تجاوزها، ليس فقط بسبب صعوبات تكنولوجية، بل بسبب أبعادٍ ميتافيزيقية (غير مادية أو غير قابلة للتفسير).

واعتماداً على وجهةِ نظرنا حول ما يشكّل الهوية الشخصية يمكن أنْ تكون أنماط معينة من الوجود؛ رغم أنها ممكنة، لكنها غير ممكنة بالنسبة لنا، لأنّ أيَّ كائن من هذا النوع سيكون مختلفاً عنّا، لدرجة أنه لا يمكن أنْ يكون نحن.

 ٤- الشروط الأساسية لتحقيق ما بعد الإنسانية

 إذا كانت هذه هي الرؤية الكبرى لمشروع ما بعد الإنسانية، فما هي الأهداف الأكثر تحديداً؟ ما هو المطلوب لتحقيق حلُم ما بعد الإنسانية؟ الواقع أنّ الوسائل التكنولوجية اللازمة للمغامرة في فضاء ما بعد الإنسان متاحةٌ لأولئك الذين يرغبون في استخدامها، وأنْ يتم تنظيم المجتمع بطريقة يسمح بالقيام بهكذا استكشافات، دون التسبُّبِ في أمر غيـر مقبول، مِن مِثل إلحاق الضرر بالنسيج الاجتماعي، وفرض مخاطر وجودية غير مقبولة. 

إنَّ الاحتمالَ المشترك للمخاطر الوجودية كبيرٌ للغاية. فشرطُ السلامةِ الوجودية من وجهة نظر ما بعد الإنسانية واضحة: إذا انقرضنا، أو دمرنا بشكل إمكاناتنا للتطور، فلن تتحقق القيمة الأساسية لِما بعد الإنسانية، فالأمنُ شرط أساسيّ، وغير قابلٍ للتفاوض.

يُنظر إلى تاريخ التطور الاقتصادي والتكنولوجي، وما يصاحب ذلك مِن نمو الحضارة، على أنه أعظم إنجازاتِ البشرية. وبفضل التراكم التدريجي للتحسينات على مدى آلاف من السنين الماضية، تم تحرير أعدادٍ بشرية هائلة مِن الأمية، وانخفضت معدلات وفيات الأطفال، والأمراض الفتاكة التي عانوا منها، والمجاعة الدورية ونقص المياه، فالتكنولوجيا في هذا السياق ليست مجرّد أدواتٍ، بل أنظمةٌ مفيدةٌ بشكل فعّال وتم إنشاؤها عمداً.

5 - القيم المشتقة

مِن هذه المتطلبات المحددة يتدفق عددٌ من قيمٍ مشتقةٍ تُترجم رؤيةَ ما بعد الإنسانية إلى ممارسة وواقع. وقد تكون لبعض هذه القيم مبررات مستقلة. ولا تعني نزعة ما بعد الإنسان أنّ قائمةَ القيم الواردة هنا شاملة. ويركز أنصارُ ما بعد الإنسانية عادةً على الحرية الفردية والاختيار الفردي في مجال تقنيات التعزيز، إذ يختلف البشرُ اختلافاً كبيراً في مفاهيمهم عماهية كمالِهم أو تحسينهم. 

يريد البعض التطورَ في اتجاه واحد، والبعض الآخر في اتجاهات مختلفة، ويفضل آخرون البقاء على ما هم عليه. ومن غير المقبول أخلاقياً لأيِّ شخص أنْ يفرض معياراً واحداً يتعيّن على الجميع الالتزام به. يجب أنْ يكون للأشخاص الحق في اختيار تقنيات التحسين التي يرغبون في استخدامها إنْ وجدت. وفي الحالات التي تؤثر فيها الخيارات الفرديّة على أشخاص آخرين، قد يلزم تقييد هذا المبدأ.

 إنّ شعور شخص ما بالاشمئزاز أو الإهانة من الناحية الأخلاقية بسبب استخدام شخص آخر تكنولوجيا تعديل نفسه؛ لن يكون له أساس شرعي، لأن التطور التكنولوجي حقٌّ عام، وضروري لتحقيق رؤيةِ ما بعد الإنسان. ويفضّل أنصارُ ما بعد الإنسان موقفاً عملياً ونهجاً بناءً، لحل المشكلات، لا سيما عِبر الأساليب التي تخبرنا التجربةُ بأنها تعطي نتائج جيدة. ويعتقدون أنه من الأفضل أخذ زمامَ المبادرة لفعل شيء حيال ذلك؛ بدلاً من الجلوس والاكتفاء بالتشكّي.

وأخيراً تؤكد نزعةُ ما بعد الإنسانية الضرورة الأخلاقية لإنقاذ الأرواح، أو بشكل أدقّ، منع الوفيات غير الطوعية بين الأشخاص الذين تستحق حياتهم أنْ تُعاش. وفي العالم المتقدم تعدُّ الشيخوخة السبب الأول للوفاة، والشيخوخة أكبر سبب للمرض والعجز والخرف. فحتى لو أمكن الشفاء من جميع أمراض القلب والسرطان، فإن متوسط العمر المتوقع سيرتفع مِن ست إلى سبع سنوات فقط، لذلك وعلى المدى القريب لا يتوقع الإنسانُ تحوّلات نوعية مطلقة، بل محدودة على الرغم من تجاوزها للحال الذي نحن عليه.

*  هذه ترجمة لمقال:

Transhumanist Values. Nick  Bostrom. Oxford University, Faculty of Philosophy. reprinted in Review of Contemporary Philosophy, Vol. 4, May 2005.