علم الجمال الطبي

منصة 2023/01/15
...

  كاظم لفتة جبر 


ترتبط التجربة الجمالية بالمعرفة لدى الإنسان، لأن معرفة الجمال تعتمد على الذائقة الحسية لدى الأفراد، وأن تفاعل الإنسان مع الموضوعات الجمالية يتم من خلال الأدوات الحسية، كالعين واللسان والسمع واليد، كما يمكن أن نعد الجسد الإنساني بكل ما يكونه كلا حساً واحداً، لكن الفلاسفة جعلوا لكل مكان في الجسد الإنساني قناة لتحسس موضوع معين، وهذا ما أكده (أرسطو) بقوله: (من فقد حساً فقد الإحساس بمدارك ذلك الحس).   


لذلك يرى (نيتشه) أن النشوة التي يحصلها الإنسان المتذوق من الفنون الجميلة نوعان: ابولونية (عقلية)  تثأر من خلالها العين، مثل الرسام والنحات، وديونيزوسية (حسية) تثير من خلالها وسائل الإحساس وتهيج دفعة واحدة في التحول والمحاكاة، مثل الكوميديا. 

وبما أن الذائقة الجمالية لدى الإنسان تعتمد على الحواس في التواصل والتعرف والتذوق،  فإن أي تأثر أو فقدان بتلك المجسات الحسية (الحواس)  يسبب نفي للمعرفة الجمالية. وأن أهم عوامل الفقد التي تتعرض لها الأعضاء الحسية تتمثل بالمرض أو فقدان جزء منها جراء إصابة. لذلك نرى ضرورة البحث في علاقة الجمال بالأمراض والأوبئة التي تسبب نفياً لذائقتنا الجمالية، وفقداناً للمعرفة الحسية. 

ويمكن تعريف (المرض): بأنه كل ما خرج بالكائن الحي عن الصحة والاعتدال من علة، أو نفاق، أو تقصير في أمر.  فالمرض متعدد، مرة يكون مادياً يمس الجسد، ومرة يكون معنوياً يخص الروح، إذا ارتبط المرض بالروح كان شكاً، أو نفاقاً، أو حسداً نسبة لقوله تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا). أما إذا أصاب الجسد سميّ فقداً، والفقدان نوعان أيضا مؤقت ودائمي، وإذا جمعنا بين الاثنين معاً الروحي والجسدي كان تمثيلاً للمرض النفسي، لذلك المرض نوعان: نفسي وجسدي، وبما أن الذائقة الجمالية تعتمد الحس الجسدي، والإحساس النفسي في خوض التجربة الجمالية والاستمتاع بها، لذا ورد في لسان العرب عن (ابن منظور)، أن التذوق يكون بالفم وبغيره، أو كل ما يدركه المرء من خلال حواسه ووجدانه.   

وأشار إليه الفيلسوف الإنجليزي (هيوم) إلى أن التذوق وسيلة لتميز بعض خصائص الأشياء من خلال الحواس الخمس. أما وظيفة المتذوق فقد بينها (هايدجر) بقوله: بأنها تتمثل في إعادة انتاج الرؤية الإبداعية للموضوع الجمالي. لذلك تعتمد العملية التذوقية على عملية الإدراك التي تقوم بها الحواس وهي الأساس في العمل، ومن ثمة تأتي عملية التأمل فهي تستنبط من خلال واقع الفرد وحاجاته. 

فالكثير من الفلاسفة والمفكرين في علم الجمال انشغلوا بدراسة الجمال كغاية ووظيفة وحاجة، ولم يلتفتوا بتشخيص سلامة الأدوات الحسية كجزء من سلامة المعرفة الجمالية، والاستمتاع باللذات، فغياب الحس يعني غياب الجمال، ومعايشة القبح دون الإحساس بلذة الحياة وزينتها، فالصحة جميلة، والمرض قبيح، وهذا ما بينه (ابن مسكوية) عن أرسطو في بيانه للصفات الجميلة، وأكد عليه سقراط بأن الشيء الجميل هو ما يؤدي وظيفته على أكمل وجه.

 فالمعرفة الجمالية هي معرفة حسيَّة يشترك في تكوينها الحس والإحساس، كما أن عملية التجريد التي يقوم بها الذهن للبينات الحسية (الصور)، التي تستورد من الأعضاء الجسدية، ترتبط بسلامة العضو الحسي وصحته. 

وعلى الرغم من أن يبدأ كل شيء مع الانطباع الإدراكي، فمن الضروري أن تمر هذه المعلومات بسلسلة من الآليات العقلية، كما يعترف أرسطو أن الواقع متغير، وإذا أردنا معرفة الكيف، يجب معرفة كل شيء، فتكون عملية تحديد هوية الأشياء من خلال التعرف على السبب الفعّال، فإن الجمع بين الخيال والذاكرة لا يجعلنا نحتفظ بما عانيناه من خلال الحواس، ولكن أيضا يعطينا أول قطعة تعتمد على ما يمكننا أن نفهم ماهي إمكانات كل شيء بأي طريقة، وكيف تتغير بفضل هذا نعرف أن الشجرة تأتي من البذرة، ومن هذه الانطباعات التي خلقتها الحواس نخلق الأفكار المجردة، وبذلك تكون لدينا فكرة عامة وشاملة للموضوعات 

الخارجية.

فالحواس هي التي تمد الذهن بالصور الخارجية، ثم يتدخل العقل الفعال في فحص تلك الصور وترتيبها  وتجريدها من مادتها، معتمداً على المعرفة المكتسبة بمسببات الأشياء، لذلك لا يمكن تحليل الجميل بمعزل عن تلك العمليات الإدراكية، أو بعيدا عما أصاب به الحواس من مرض أو فقدان، فالقيام بالعمليات الإدراكية يعتمد على صحة البدن، ونقاء الإحساس، فكل فقدان لجزء معين من الإنسان هو فقدان للأشياء التي تدرك بذلك الشيء، فحزن الإنسان يتصل بالنفس لأن الآلة هي التي تمد النفس بتلك الصور الجمالية التي  فقدت، لذلك تفنى اللذة التي تكونت في ذهن الإنسان بعد فقدان صورها، لكن بما أن (افلاطون) يرى المعرفة بأنها تذكر، ففقدان العضو الحسي لا يستوجب نفياً للمعرفة الجمالية، لكون الفرد يحتفظ بصورة ذهنية عن تلك اللذة الجمالية. وهذا الأمر ينطبق على ممن فقد عضواً أو حاسة جراء الحروب أو الحوادث، لكن يبقى الأمر الأكثر ضراوة على الإنسان عندما يكون الفقد منذُ الولادة، فيمكننا التساؤل: كيف يمكن لشخص عاش بالظلام أن يعرف النور؟ هل الحواس الأخرى ممكن أن تحل محل حاسة العين كونها الحاسة المهمة في المعرفة الجمالية والاستمتاع فيها؟ 

بما أن الإنسان يمتلك حواس خمسٍ تتعدد مهمتها في المعرفة، وفي أكثر الأحيان في المعرفة نحتاج لاستجماع جميع الإدراكات الحسيَّة لمعرفة شيء معين والاستلذاذ به، فنعرف شكله من خلال العين، ونتأكد من ملمسه من خلال اليد او بالجسم ككل، ومذاقه من خلال اللسان، وصوته من خلال الأذان، وعطره من خلال الأنف، فكل تلك الأدوات الحسية تجتمع من أجل توصيل صورة كاملة وواضحة للذهن لغرض اختيار الاستجابة، التي تلائم الموضوع الخارجي وحفظه في الذهن، لذلك يمكن الاستعاضة بالحواس الأخرى لغرض تكوين صورة عن الموضوع، لكن قد تكون خيالية بعض الشيء، ولنا في الصمم الذي أصاب بيتهوفن في أواخر أيامه مثلاً لم يمنعه من تأليف السمفونية التاسعة. 

أما المرض النفسي فنجده ذا تأثير كبير على فهم وتكوين الصورة الجمالية، من خلال ظهور اللاشعور أو المكبوت في اللاوعي إلى الواقع، فالرغبة المكبوتة هي المصدر في تحديد صورة الشكل وليست الأدوات الحسية، وهذا ما جعل (كروتشه) يساند قول افلاطون في أن المعرفة الجمالية تذكر،  لذا يؤكد كروتشه ذلك بقوله عندما نشاهد لوحة قد تستثير في نفوسنا ذكريات طيبة، ولكن اللوحة قد تكون قبيحة من الناحية الفنية، أو العكس من ذلك فقد تكون جميلة من الناحية الفنية، ولكنها تترك أثرا بغيضا على النفس، لذلك الرغبات والموقف المحفوظة في نفس المتذوق للجمال هي من تشكل صورة اللذة الجمالية، أما أن تكون فرحاً أو حزناً، لذلك نرى الكثير منا يبكي عند الفرح، أو إيراد العكس في بعض المواقف، لذلك المرض النفسي يوهمنا بصور لانطباعات مكبوتة تختلف عن غاية الموضوع الخارجي وصورته، لذلك كان الفن تطهيراً وشفاء للشر والأمراض التي تكمن فينا، لذلك قد يكون  المرض نفياً للجمال، إلا أن معالجة تلك الأمراض لا تتم إلا من خلال الفن والطب التجميلي، لذلك علم الجمال الطبي يختص بمهمة توضيح المعرفة الجمالية والأسباب، التي تؤدي إلى فقدان الحس الجمالي لدى الأفراد، وكذلك تقديم المعالجات الضرورية، أما مفهوم الطب التجميلي  يهتم بالجانب المادي 

للإنسان.