علي حسن الفواز
يبدو أن الاستنزاف سيكون العنوان المُستقبلي للحرب بين روسيا وأوكرانيا، فكلّ شيء "لم يعد هادئاً" في جبهات هذه الحرب، وكأن هناك رهاناً على فرض توصيفات ستراتيجية للمنتصر وللمهزوم فيها، لاسيما أن الغرب قد جعل منها حربه الأيديولوجية، وبات يُغذّيها بتوصيفات أنثربولوجية، جعلت من الروسي ليس هو الخصم العسكري فحسب، بل هو العدو الثقافي للأوربيين، والخارج عن قيمهم الثقافية والليبرالية، وحتى الرياضية، والتقاليد المسيحية..
حرب المدن، تكشف عن حرب الأفكار والنوايا، فالروس صرحوا بأن مدينة الملح الأوكرانية "سوليدار" قد سقطت بأيديهم، والأوكرانيون يصرّون على القتال فيها، لكن حديث المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي للإعلام، هو المثير للجدل، فهو يقول: حتى إن سقطت باخموت وسوليدار في يد الروس، لن يكون لذلك أثر ستراتيجي في الحرب نفسها، ومن المؤكد أن ذلك لن يوقف الأوكرانيين أو يثبطهم"
هذا التصريح بـ"النيابة" لا يحمل حساباً عسكرياً مجرداً، بل هو سياسي في أهدافه، لأن الخسارة في الحرب، ستعني فشلا في السياسة، وهو ما دعا الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوربي إلى التفكير الصاخب في دعم أوكرانيا لمواجهة هذا الخرق، وعبر سياسات تسليحية استثنائية، يمكنها أن تُدخِل الحرب في مرحلة الاستنزاف، فدبابات ليوبارد الألمانية، وتحريك أسطول طائرات الاستطلاع العملاقة "أواكس" في أجواء رومانيا، وصواريخ كورتال الفرنسية، و مدفعية إيه إس-90 هاوتزر البريطانية، تكفي لتحويل جبهات الحرب إلى جحيم، وإلى حرائق ترمي بسوادها على الناس والمدن، وعلى أي أفق للتفكير بالمراجعة، وبالتخلي عن ثنائية المنتصر والمهزوم..
خطورة الذهاب إلى حرب الاستنزاف تعني من جانب آخر، فتح جبهات تتجاوز صناعة الأزمات، إلى الرهان على تشكيل "الجماعات المسلحة" غير النظامية، كما تقوم به جماعة فاغنر الروسية، التي قد تدفع دولا أخرى للعمل على تجنيد "مرتزقة" مدفوعي الثمن لخوض حرب عصابات، ليس في الجبهات، بل في المدن، وربما خلف المدن، وبما يجعل حرب الدونباس هي الأقرب إلى ذاكرة الحروب "الدينية" التي سبقت معاهدة "وستفاليا" التي وقّعها الأوربيون سنة 1648 لإنهاء الصراع الديني المروّع، الذي استمر "ثلاثين" عاماً.