حسن العاني
تشمل العربية عدة فروع لا تنفصل عن بعضها (لغة، نحو، بلاغة، صرف...الخ) ولكنني لم أعشق فرعاً مثل عشقي للبلاغة، والبلاغة بدورها تضم مجموعة فروع، ما تعلقت بواحد منها مثل تعلقي بالكناية، لأن أسلوبها وصياغتها اللغوية المكثفة شديدة القرب من جماليات الأدب، ولكونها تنم عن ذكاء عالٍ سواء في دلالتها الرمزية أم في اختصارها للكثير من التفاصيل الوصفية، وإيصال المضمون أو المعنى بأقل الكلمات، ولهذا أغنت الكناية في قولهم (بعيدة مهوى القرط) عن كلام تفصيلي طويل لإيصال الفكرة. وربما لم ينتبه العديد منا إلى أن معظم الحركات الصادرة عن اللسان، أو العين، أو الإصبع، أو الجسد، أو الحاجب، هي كنايات صامتة!.
في حدود علمي واطلاعي – وهو أمر محزن لو كان كذلك – إن الكناية ظلت حكراً على الفصحى، حيث لم يُنتبه إليها في العامية الغنية جداً بالكنايات الشعبية التي نتلمس جمالياتها المدهشة ودلالاتها الذكية في الأغاني والشعر الشعبي ومصطلحات الناس المتداولة والأمثال العامية أو الشعبية، فنحن نسمع وصفاً لرجل ما بأنه (ابن سوﮒ – سوق) كناية يراد بها أنه صاحب خبرة عالية في البيع الشراء والتجارة، وتقول الناس في موطن المديح (فلان.. أخو اخيته)، كناية عن الرجولة والشجاعة والشهامة، وفلان (ابن شيوخ) كناية عن الكرم، وفلان (ابن أوادم) أو ابن (حمولة)، كناية عن أخلاقه الرفيعة..
بالمقابل هناك كنايات يراد بها الذم كقولهم (ابن شوارع) لأن تصرفاته سيئة، أو أنه لم يتلق تربية منزلية أو مدرسية. وللتقليل من شأن أحدهم قالوا (فلان بوخة) أي أنه قول من دون فعل، وكناية عن المسؤول الذي لا يمتلك من أمره شيئاً قالوا (فلان.. لا يحل ولا يربط)، وفي شتى أمور الحياة وقضاياها كانت الكناية حاضرة، فقالوا مثلاً (ما ينعرف حماها من رجلها) كناية عن الفوضى وشدة الزحام، أما الذي يعيش في بحبوحة أو أن أموره جيدة في هذا المجال أو ذاك فكنايته (ايده بالدهن)، ولم تقف الأمثال الشعبية بعيداً عن هذا المشهد الشمولي، فقد جاء المثل التالي (هزي رطب يا نخلة) كناية عن الإنسان الذي يعيد ويكرر كلامه، أما المثل (ودع البزون شحمة) فكناية واضحة الدلالة عن الإنسان الذي لا يمكن الاطمئنان إليه. الأغاني العراقية عامرة بالكنايات بحيث تصعب الإحاطة بها، ولعل أجمل ما بلغنا من تراثيات الغناء العراقي – على ما يذكره صديقي الراحل، الباحث شفيق مهدي، رحمه الله – هذا المقطع (چلچل عليّ الرمان) كناية عن الاحتلال العثماني، (نومي فزع لي) كناية عن الاستعمار البريطاني، فأية كناية تناسب الاحتلال الأميركي، وأية كناية تليق بالذين قدموا إلى العراق على ظهور الدبابات الأميركية، والذين صفقوا وزغردوا ورحبوا بالاحتلال، ثم أرادوا تبييض صفحاتهم فراحوا يلعنونه 25 ساعة في اليوم؟!.