عقيل حبيب
تتمتع الأيديولوجية الأصولية المتطرفة خاصة المقاتلة منها، بجاذبية لم يفلت منها اصحاب السوابق واللصوص ومغنو الراب بنفس الدرجة بالنسبة للمثقفين والمفكرين (الاسلاميين). هل هذه القوة متأتية من الاقتناع بتلك الأيديولوجية كما تعكسها المصادر التاريخية أم ان هناك عوامل اخرى تتعلق بالمخيال الديني الذي يتحكم في العديد من النشاطات المعرفية للذهنية الاسلامية؟.
من المرجح أن أهم مكونين للمخيال هما الصورة والرمز، مع الفارق بينهما. وبينما وصف عصرنا الحاضر بعصر الصورة يمكن وصف العصور السابقة بانها عصور الرمز، فقد اعتمدت مراحلها التاريخية الكبرى على الرمز كمصدر لنشاطها الذهني في أغلب المجالات سواء الدينية أو الاجتماعية، وصولاً الى نشاطها الثقافي الفلسفي و(العلمي).
لم يوصف عصر قبل عصرنا الحاضر بهذا الوصف (عصر الصورة)، وذلك لما لعبته الصورة من دور كبير فاق حتى كثافة الرمز في أساطير العصور القديمة. ففي عصرنا طغى نشاط الصورة على نشاطات بشرية عدة وأسهم في صياغة الواقع، بل وفي صناعته. لذا كانت الصورة من اهم المؤشرات على العصر الحديث، إذ أسهمت في رسم الحدود المعرفية والزمنية بين ما سمي بالحداثة وما بعد الحداثة (معرفياً)، وبين العصر الحديث وما قبله (زمنياً).
يشير رولان بارت الى أننا نعيش في حضارة الصورة، على عكس العصور التي سبقت. مصطلح بارت هذا يعني أنَّ البشرية أنجزت عملية نقل اغلب مكوناتها الوجودية الى مسكنها الجديد: الصورة، بعد ان كانت اللغة - حسب قول هايدغر- هي مسكن الوجود.
حينما يحل نظام معرفي جديد (برادغيم) تحل معه ثنائيته في المركز/ الهامش، ويبدأ بتقسيم العالم ميتافيزيقياً (فهذه الثنائية بحسب ادورد سعيد في كتابه الاستشراق هي ذات اصل ميتافيزيقي) الى: الوجود وهو ما يوجد في الصورة، في مركز الصورة، في قلب الحدث. وما يقع خارج الصورة فهو عدم، او يعيش على اطرافها هامشاً.
من أبرز ما أسهم في تعميق هذه الثنائية وسائل الاعلام والميديا وشبكات التواصل الاجتماعي. فالصورة قد أصبحت هي الحد الفاصل بين تاريخين، وسيكون لتاريخ ما قبل الصورة وقائعه التي تختلف عن وقائع تاريخ ما بعد الصورة.
التنظيمات الأصولية القتالية لم تنس أهمية هذا العنصر، فلقد نجح العديد منها في نقل الخطاب الجهادي من مجال المكتوب أو المسموع الى مجال المرئي، والذي زاد من قوة تلك التنظيمات وساعد في انتقالها من الطور المحلي الى طور العالمية. لم تبق تلك التنظيمات مكتوفة الأيدي وهي ترى حركة العولمة تجتاح العالم لذا عملت على استغلال ما توفره العولمة واستثماره لصالح مشروعها الدموي وايديولوجيتها المتطرفة، وأعتقدُ أنها نجحت في ذلك بدليل أنَّ الملتحقين بداعش من الأجانب خاصة تعرفوا على التنظيم من خلال أشرطة الفيديو وتم الاتصال بهم وتنظيمهم بواسطة شبكات التواصل الاجتماعي.
مع هذا الانتقال من ثقافة الأذن الى ثقافة العين نقلت التنظيمات المتطرفة الكثير من عدتها التراثية الإسلامية وادبيات الجهاد الضخمة من احكام فقهية وتفسير ومرويات الحديث واخبار المغازي والفتوحات والاشعار والقصص والاناشيد الدينيَّة لتحولها الى مشاهد مصورة، وتمزجها - عن طريق الصورة- بغزواتها وخطب قادتها وحفلات إعدام ضحاياها لتبدو وكأنها جزءٌ من ذلك الموروث. وهنا بالضبط لعب المخيال اعلى نشاط له بواسطة الصورة وحقق نتائج مهمة من التأثير في النفوس وتنامي الخطاب الجهادي وتزايد عدد المؤيدين لتلك الحركات وتزايد اعداد الملتحقين بها. وهذا سر التفوق العددي لداعش على جميع التنظيمات من مثيلاتها الحالية أو السابقة، بل تجاوز عدد مقاتليها عدد المنتمين الى تلك التنظيمات مجموعة. من هنا جاء أحد أهم الأسباب الذي منح هذا التنظيم استثنائيته. ومن هنا ايضا يمكن أن نجيب عن بعضٍ من أسباب جاذبية التطرف. فعلى مستوى المخيال الديني لفئات كبيرة من المسلمين استطاعت الصورة أن تلعب دوراً خطيراً في تسهيل عملية انتقال داعش من مرحلة الايديولوجيا الى مرحلة اليوتوبيا، من كونها تمثل جماعة مسلحة أو ايديولوجية تنظيمية الى كونها تمثل المكان الذي تحقق فيه حلم الخلافة الإسلامية. كان (المجاهدون) يتدفقون الى مدينة الموصل وفي ذهنهم صورة المدينة المنورة الفاضلة التي تحتكم الى الشرع الإلهي، وراحوا يتسمون بأسماء الصحابة ويتلقبون بألقاب القادة. وبعد دورات شرعية سريعة وبعض التوجيهات والتعليمات يتحول هؤلاء القادمون الى اشخاص مختلفين، أشخاص آخرين حتى بالنسبة لأنفسهم، وكأنهم من خلال (طقوس العبور) هذه تصبح لهم هويات جديدة، فشخص مثل البريطاني المولد والنشأة عبد المجيد عبد الباري مغني الراب ذي 23 عاماً الذي قام بقطع رأس الصحفي الأميركي جيمس بولي كأي ذباح عتيد، لو رأينا أشرطته الغنائية لا نستطيع أنْ نتخيل انه هو نفسه الذي قطع رأس الصحفي بحرفية. وكذا مغني الراب الآخر الالماني دينس غوسبرت الذي يعرف في برلين باسم فني هو (ديزو دوغ) تحول الى (ابو طلحة الألماني)، إذ إنه في 2010 اعتزل الراب وأعلن نفسه (داعية إسلامي) وراح يصور فيديوهات (إنشاد جهادي) مع رؤوس مقطوعة، ليعلن بعدها موقع (تاغس شبيغل) و(سايت) الأميركي والبنتاغون عن مقتله.
هكذا شكلت داعش في هذا المخيال الحركة الوحيدة القادرة على نقل الجماعة الى مستقبلها المنشود، فردوس الإسلام الضائع منذ العام 1258(سقوط بغداد على يد المغول) أو عام 1924 (سقوط الخلافة العثمانيَّة). هكذا تخيلت الأمر الكثير من الفئات في المجتمعات المحليَّة، ولكنْ عند الإرهابيين الخارجيين (المهاجرين) القادمين من دول بعيدة كان الخيال أكثر
نشاطاً.