علي العقباني
الذهاب إلى منطقة معلولا من دمشق يحتاج إلى قطع مسافة 56 كيلومتراً باتجاه شمال شرقي دمشق، وتبدو معلولا للناظر وكأنها محفورة بطريقة ساحرة ومدهشة في صخور جبال القلمون المرتفعة ما يقرب من 1500 متر عن سطح البحر، حيث تطالعك بين أحضان جبال القلمون الشاهقة مدينة معلولا لتشرف من علوها المهيب على مكان عمره بعمر التاريخ لتكون شاهدا على حضارات تعاقبت عليها وتظهر بيوتها.
وكأنّها معلقة في الجبال بعضها فوق بعض وبشكل متلاصق، ويشعر الزائر بأنّه يدخل منطقة تاريخيَّة مظللة بأجواء خيالية تشكّل ما يشبه المدرجات السكنية وهي مطليَّة بالكلس الأزرق وتتداخل بشكل غريب ضمن تخطيط عمراني طبيعي رسمته التضاريس الجبلية، ويسبب تلاصق البيوت في معلولا وجود الطرقات ضمن مساحات ضيقة، حيث تتكاثر الممرات المتشعبة والضيقة جداً بينها، وللوهلة الأولى يشعر الناظر إلى المنطقة المرتفعة بالدهشة وهو يعتقد أن ما يراه طبيعيا، لكن الشكل المعماري يظل متماسكاً طالما أنه منتمٍ إلى الماضي البعيد ومستمر في الوجود طيلة سنوات كثيرة، مثلما تتكاثر السلالم الخشبية العالية التي يستخدمها الأهالي للوصول إلى المنازل المحفورة ضمن الكهوف الجبلية، ويعد مناخ معلولا كمناخ جميع المناطق المرتفعة في بلاد الشام، فالشتاء بارد جداً وغالباً مثلج والصيف معتدل.
ومعلولا كلمة آرامية (مو علولا)، تعني المدخل، وجاءت هذه التسمية لوجودها ضمن شعب جبلي جميل يقطع سلسلة جبال القلمون.. كما أن اسمها في السريانية يعني المكان المرتفع ذا الهواء العليل، وتعد قرية معلولا السورية من أقدم القرى المسيحية في العالم وتشتهر بوجود معالم مسيحية مقدسة ومعالم قديمة مهمة يعود تاريخها للقرن العاشر قبل الميلاد.. كما أن سكانها من المسيحيين والمسلمين ما زالوا يتكلمون باللغة الآراميَّة.
لغة السيد المسيح حتى اليوم، فضلا عن قرى (جبعدين وبخعة وقلدون).
كان اسمها قديماً (بنكرابوليس)، وفي العصر (الهلنستي) كانت تسمى (سلوقية القلمون)، وحملت عدة مسميّات عبر العصور من بينها: سيليوكوبوليس في العصور الرومانية.
ومن أهم معالمها الأثرية والدينية “الفج” الذي يعد أبرز معالم البلدة وأكثرها جذبا للسياح، وهو عبارة عن شق صخري شاهق يشكل ممراً ضيقاً من طرف الجبل الذي تتربع عليه البلدة، إلى طرفه المقابل، ويقسمها إلى شطرين، وممر (الفج) يمتد على طول 500 متر، وبارتفاع يتراوح بين 50 و 100 متر، وعرض بين مترين و10 أمتار، والفج، الذي يسمى أيضا بـ (الفج الشرقي)، يشكل بوابة الدخول الوحيدة الى الاعماق التاريخية لبلدة معلولا الأثرية، ويتميز هذا الفج من بدايته حتى أعلى الجبل بوجود الغرف والخلوات المحفورة بالصخر وعلى مستويات مختلفة، بما يشكل إحدى العجائب الطبيعية التي يمكن أن يراها الزائر في هذا المكان، وبحسب الرواية الشعبية، والأسطرة التي تحيط بالمكان، نشأ الفج حين هربت القديسة تقلا من حكم الموت الذي صدر بحقها في الأيام الأولى لفجر المسيحية، فكانت العجيبة أن انشق الجبل الصخري فأبقى الفتاة الهاربة (مار تقلا) في شطر، والجنود الرومان في الشطر الآخر.
في عام 2013 تعرضت بلدة معلولا التي تعد محجاً مسيحياً ومنطقة أثرية تجذب اليها السياح من جميع أنحاء العالم إلى هجوم من الجماعات المسلحة التي اجتاحتها وعاثت فيها فساداً وتدميراً وحرقاً لكنائسها ومعالمها وقتلاً لعدد من أبنائها واختطافاً لراهباتها، حدث صعق العالم لقسوته ولمكانة معلولا التاريخية والدينية في العالم وجعل عدداً كبيراً من أهلها يغادرها إلى بلاد المغترب هرباً ولجوءاً ولم يعد معظمهم حتى الآن.
تُعد معلولا ذخراً روحياً وثقافياً عريقاً تاريخياً ودينياً فهي تحتوي كنائس قديمة جداً ومزارات وآثاراً مسيحية ومعالم تاريخية منها كنيسة وأضرحة بيزنطية قديمة منحوتة بالصخر في قلب الجبل، ربما كانت بيوتاً أو مدافن أو أماكن لجوء، كما يوجد فيها دير مار تقلا البطريركي.
كما يقع فيها دير مار سركيس وباخوس الأثري، وهو من أقدم المعالم المسيحية في المنطقة، ويحتوي على أقدم مذبح مسيحي في العالم يعود الى العام 316م، وهو أول معبد (وثني) يتحوّل كنيسة عام 313م، وجاءت تسميته نسبة لأحد الفرسان الذين قضوا في عهد الملك مكسيمانوس في سنة 297م، وتعد معلولا محجة لكل المؤمنين، مسلمين ومسيحيين، حيث تعد المدينة رمزا للتآخي، وخلال شهري أيلول وتشرين الاول من كل عام، جرت العادة أن تُشعل النيران على قمة الجبل، احتفالا بعيد الصليب (14 ايلول)، ويتم تزيين المدينة احتفالاً بعيد تقلا (24 ايلول)، والشهيدين سركيس وباخوس (7 تشرين الأول)، كما يشكل عيد انتقال السيدة العذراء في الـ 15 من أغسطس (آب)، موعداً سنوياً للزوار الذين يقصدون معالم البلدة للحج والتبرك، وتزدحم المدينة بآلاف الزائرين في عيد الصليب الذي يصادف الرابع عشر من أيلول/ سبتمبر وعيد القديسة تقلا في الرابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر وعيد القديسين سركيس وباخوس في السابع من تشرين أول/ أكتوبر، إذ يتوافد الزوار إلى معلولا للمشاركة في الاعياد المقدسة ويتلاقى الزائرين من دول أوروبا والعالم بالزوار من سوريا وأنحاء الشرق.
تحتوي معلولا على معالم تاريخية متفردة أهمها الأديرة والكنائس والممرات الصخرية وعلى أثار مسيحية قديمة ومهمة في تاريخ المسيحية منها كنيسة بيزنطية قديمة وأضرحة بيزنطية منحوتة في الصخر في قلب الجبل، كما يوجد فيها دير مار تقلا البطريركي الذي يضم رفات القديسة تقلا ابنة أحد الأمراء السلوقيين وتلميذة القديس بولس ويقع في مكان بارز من القرية ويطل من جوف الكهف الصخري الذي عاشت فيه بعد هروبها من أهل السوء، إذ لا يزال هذا الكهف ظاهراً حتى اليوم وفي رحابه بُني دير مار تقلا الذي بقي حتى الآن رمزاً للقداسة وحياة القديسين مما يدل على أن معلولا كانت مدينة رهبانيَّة مقدسة ترتفع منها الصلوات والتضرّعات ليلاً نهاراً إلى الله، كما تحدثك الأيقونات الأثرية البيزنطيّة ذات القيمة الفنية عن السيدة العذراء حاملة الطفل يسوع وعن الصليب وعشاء الرب الأخير التي تمثل في نصفها الأعلى المسيح مصلوبا والى جانبيه مريم العذراء والقديس يوحنا.
تعاقب على مدينة معلولا عددٌ من الحضارات القديمة؛ ومنها: الآرامية، واليونانية، والرومانية والبيزنطية، وأخيراً العربية الإسلامية، ويظهر أثر هذه الحضارات بما تحتضه المدينة من آثار ومعالم منها كنيسة التوبة، وكنيسة القديس لاوندايوس، وكنيسة مار الياس، وكنيسة القديسة بربارة، وكنيسة القديس جاورجيوس، وتوجد في معلولا بقايا كنيستين هما، كنيسة القديس (نيقولاوس) وكنيسة القديس (شربين)، وفيها أيضاً مزار مار سابا ومزار مار قزما ودميانوس، ودير البنات وحمام الملكة وجامع معلولا وينابيعها الغنية بالماء العذب.