من الشعر إلى القصيدة

ثقافة 2023/01/24
...

  محمد صابر عبيد

يعد مصطلح «الشعر» ومصطلح «القصيدة» مصطلحين شائعين في دراسة الفن الشعري ينبغي وضع حدود بينهما على مستوى منهجيّ، كما هي مثلا مع السرد والرواية، فالشعر مفهوم عام يمكن أن يوجد في ميدان اللغة من دون الإحالة على الجنس الأدبيّ المخصوص، في حين توصف القصيدة بأنها مفهوم خاصّ ونوعيّ يدل دلالة حاسمة وواضحة على فن شعري بعينه، له ضوابط وقوانين وأعراف يستحيل الوصول إلى القصيدة من دون حضورها على نحو من الأنحاء.

نستنتج من هذه الرؤية الاصطلاحيّة أنّ الشعر هو المفهوم العامّ في هذا المجال؛ والقصيدة هي المفهوم الخاصّ، فحين نتحدّث عن علاقة الشاعر بالشعر ينبغي أن يحصل ذلك في سياق القصيدة وبدلالاتها وقيمتها وفضائها فضلاً عن تحوّلاتها وقضاياها وأعرافها، فالقصيدة هي محور البحث والقراءة والمراجعة والمقاربة والتداول والفحص والمعاينة وجميع الفعاليّات الإجرائيّة الخاصّة بهذا العمل، إذ حينما نقول (الشعر) فإنّنا نقصد حالة تاريخيّة عامّة تخصّ فنّ الشعر المعروف بـ (القصيدة)، ولا يمكن أن نعني خصوصيّة الجنس الأدبيّ إلّا بدلالة مصطلح (القصيدة).

يبدو أنّ كثيراً من مؤرّخي الشعريّة العربيّة والباحثين والدارسين والمشتغلين في هذا الحقل لا يفرّقون كثيراً بين الشعر والقصيدة، فهم يخلطون بينهما على نحو يبدو وكأنّ كلّ مصطلح منهما مرادف للآخر، لكنّ الفرق في الحقيقة كبير جداً، ولا مجال للخلط بينهما مطلقاً، فالشعر وما يتفرّع عنه من مصطلحات كالشعريَّة مثلاً تمثّل النظام الأدبيّ المتحكّم بالنصوص الأدبيّة كي يجعل منها أدباً، أو الشاعريّة التي هي صفة رومانسيَّة يمكن أن تُطلق على أيّ شيء إنسانيّ أو طبيعيّ أو كونيّ، والشعرنة التي تعني ضخّ طاقة شعريّة في الأشياء حتى ترقّ أكثر وتكتسب سيولة فضائيّة أكبر على صعيد النشاط والحيويّة والجذب والإدهاش، وغيرها من المصطلحات التي يمكن أن تندرج في هذا السياق، وهذا لا يمثّل النوع الأدبيّ المخصوص بانتمائه الحاسم إلى الشعر وهو (القصيدة)، فالقصيدة هي الموازي النصيّ للقصّة والرواية والسيرة الذاتيّة والمسرحيّة وغيرها من الفنون الأدبيّة في ميزان تحديد الجنس أو النوع الأدبيّ على نحو نظريّ صحيح ودقيق وواضح. لعلّ معنى (القصد) الذي يتضمّنه مصطلح (القصيدة) في جذره الفعليّ (قَصَدَ: يقصُدُ) ينحاز بقوّة إلى الدلالة الجوهريّة العميقة له، فإذا كان مفهوم (الشعر) عامّاً يتّصل بكلّ من يسعى نحو التعبير عن شعوره وإحساسه بقول شعريّ يتوفّر على حُسن الصياغة وطاقة التأثير، فإنّ مفهوم (القصيدة) لا يتحقّق من دون وصول قصديّة الكلام إلى مبتغاها القائم على تجربة حيويّة واضحة المعالم، ويمكن على هذا النحو التعامل مع مفهوم (الشعر) قريباً من مفهوم (القول)، والتعامل مع مفهوم (القصيدة) قريباً من مفهوم (الكلام)، بما يجعل الإشارة إلى الجنس الأدبيّ تصحّ تماماً حين نستخدم مصطلح (القصيدة) ولا تصحّ تماماً حين نستخدم (الشعر) على إطلاقه المفتوح.

تتجلّى هذه الرؤية على نحو واضح يحقّق جوهر المطلوب في توفّر عنصر القصديّة لوصف الحالة وتحديدها، فحين نقول (قصّ القاصُ قصّةً) فإنّ ثمّة علاقة بين الفعل والمفعول المطلق إذ المفعول من جنس الفعل، وهكذا حين نقول (قصدَ الشاعرُ قصيدةً) فإنّ المعنى الموازي للجملة السابقة يؤدّي الأداء نفسه، لتتحقّق العلاقة بين الفعل (قَصَدَ) والمفعول المطلق (القصيدة) على نحوٍ يقوم فيه المفعول المطلق بامتصاص المعنى القصديّ في الفعل، ويمكن تحليل البنية الدلاليّة للفعل (قَصَدَ) بمستويين متفاعلين متداخلين، الأوّل يحيل على القصديّة بمعنى التخطيط المبرمج للقيام بالفعل، ويحيل الثاني على ظهور علامة الصوت في نوع من الإجراء الفعليّ يقوم على إطلاق كلام نوعيّ مُنتخَب على وفق آليّة محدّدة من أجل وظيفة كلاميّة مُعيّنة، وهنا يحصل تقارب شديد جداً بين علامتي الفعل والمفعول بما يخدم الفكرة ويؤيّدها وينجز مبتغاها.

تتحرّك الفعاليّة الاصطلاحيّة داخل هذا المضمار لأجل الوصول إلى الصورة العامة التي تتّضح فيها حدود المصطلح، لذا فحين نُعيّنُ الجنس الأدبيّ العام نقول (الشعر)، وفي الجهة الأخرى نقول (النثر) أو (السرد)، غير أنّنا حين نذهب نحو تعيين النوع في جنس الشعر نقول (القصيدة)، والحال نفسه حين نبغي النوع النثريّ/ السرديّ فنقول (القصة/ الرواية/ السيرة الذاتية/ الرسالة.. وغيرها)، وهنا يكون الجنس الأدبيّ صورة عامة لا يمكن الاستناد إليها لتحديد النوع الأدبيّ العامل في الميدان، ممّا يتوجب عدم الاكتفاء بذلك والانتقال إلى طبقة أخرى لفهم المطلوب من الوصف

والتعيين. يعني هذا أنّ الوصف العام في دائرته الكبرى -مهما بلغ من الشيوع والتداول- لا يمكن أن يقدّم لنا ما نحتاجه حين نرغب بالوصول إلى الصورة الاصطلاحيّة المطلوبة، أمّا إذا دخلنا بعد ذلك في دائرة أضيق بحثاً عن الأشكال فسنتحدّث داخل فضاء (القصيدة) عن الأشكال الشعريّة الثلاثة المعروفة (قصيدة الوزن/ قصيدة التفعيلة/ قصيدة النثر)، وكلّ نوع منها يمثّل مرحلة تاريخيّة من مراحل التكوين الثقافيّ والفكريّ والحضاريّ والإنسانيّ، من مجتمع القبيلة والبادية، إلى مجتمع المدينة والحاضرة، إلى مجتمع العولمة حيث تكون قصيدة النثر هي قصيدة المستقبل في تمثيل درجة استجابتها لقوانين العصر ومقتضياته

وحساسيّاته.