فصول منوّعة من قصة السياسة في إيران

قضايا عربية ودولية 2023/01/24
...

 جواد علي كسار

موضوع هذا الأسبوع هو مقاربة للشأن الإيراني بالصميم، فرغم مرور ست سنوات على وفاة هاشمي رفسنجاني، لا يزال يواصل حضوره المكثف على مستوى المشهد الإيراني، لاسيّما الذكرى السادسة هذا العام، فقد تميّزت بتغطيات واسعة لمنهج الرجل، واستحضار بصمته القوية الواضحة في مختلف منعطفات الجمهورية الإسلامية، بالإضافة إلى أفكاره ومواقفه التي شاءت لها القراءة الإسقاطية، أن تتحول إلى معيار لتقويم أزمات إيران، وإلى خيارات تتلمس بها حلولا لمشكلات البلد المتكاثرة في الداخل والخارج.

لا نجانب الصواب لو قلنا إنَّ ملفّ رفسنجاني، والموقف منه ومن منهجه وخطّه السياسي وأفكاره، بقي مفتوحاً منذ وفاته بداية عام 2017م حتى الآن، وهو في الغالب موزّع بين تيارين متصارعين، الأول مؤيّد بالكامل، مقابل الثاني المعارض بالكامل، بينما خطّ ثالث عوان بين ذلك، تمتد مواقفه على مروحة واسعة بين المختلف والمؤتلف. وعلى هذا مضت الذكريات الخمس الفائتة.

بيدَ أنَّ الذكرى السادسة لوفاته هذا العام اختلفت تماماً، ليس فقط بكثافة الاحتفاء وامتداد الكلام عن رفسنجاني لأسبوعين وأكثر، بل بما اتسمت به أيضاً من غلبة المؤتلف والمؤيّد على المختلف والمعارض، إذ لم ألحظ في حدود متابعتي الشخصية صوتاً ندّاً للمعارضين ضدّ رفسنجاني (مع أنهم ليسوا قلّة!) كلّ ذلك بسبب حراجة الموقف الداخلي على إثر الاحتجاجات الأخيرة، وخشية المعترضين وحذرهم الشديد من إضافة سبب آخر يزيد التوترات الداخلية، وإن لم تخلُ الساحة تماماً من أصوات معترضة، جاءت بقناع نقدٍ هادئ شديد الحذر لبعض ما قيل عن "الشيخ"، كما فعلت ذلك صحيفة "كيهان" و"جوان"، وبعض المواقع والوكالات المحسوبة على الأصوليين المتشدّدين.


ملف صحيفة "جمهورى"

قد لا أبالغ لو قلت إنَّ مادّة الذكرى السادسة لرفسنجاني هذا العام تُؤلف بمحتواها كتاباً كاملاً، قد تصل صفحاته إلى الخمسمئة، ربما كان الأبرز فيها ملف صحيفة "جمهورى إسلامى" الأصولية النقدية المعتدلة، وقد جاء تحت عنوان بارز، هو: "ماذا لو كان هاشمي موجوداً؟".

سجّلت الصحيفة في هذا الملف شهادات مهمّة سياسية وحوزوية وعسكرية وعائلية، تصلح بنفسها أن تكون كتاباً، شملت على مدار أسبوعين تقريباً (16) شخصية، من بينهم إسحاق جهانغيري ومحمد حسين كرباسجي والجنرال حسين علائي، وأسماء من الحاضرة القمية أمثال محمد سروش محلاتي وجواد ورعي وضياء مرتضوي.

أضف إلى ذلك الملف الخاص الذي افتتحه موقع "جماران"، ونشر فيه فصولاً من كتاب حواري جديد مع هاشمي رفسنجاني، وبعض من عمل معه من الوزراء والمعاونين، تأخّر نشره سنوات نتيجة أسباب داخلية مانعة لكنها معروفة، إلى أن ارتأت "جماران" البدء بنشر هذه المجموعة من المحاورات، بدءاً بالحوار مع رفسنجاني نفسه.

لكن ما لفت نظري في مادّة الذكرى السادسة هي القراءة الإسقاطية، التي سعت إلى استحضار رفسنجاني منهجاً وفكراً ومواقف، وهي تفرش بين يديه مشكلات إيران الحالية في أزمة الاحتجاجات، وعلى مستوى السياسة الخارجية في ما يرتبط بالنووي والعلاقة المضطربة مع الغرب والشرق والمنطقة، وتسعى عبر استنطاق ذلك إلى توجيه نقد عميق وشديد، لسياسات حكومة إبراهيم رئيسي الحالية، وما تسجله لها من إخفاقات متراكمة وفشل مركّب داخلي وخارجي، ترى بعض علاجه في العودة إلى منهج "الشيخ" وأسلوبه في إدارة الملفات.


سلاح المذكرات

ستّة وثلاثون مجلداً بمعدّل (800) صفحة من الحجم الكبير لكلّ مجلد، هو عدد أجزاء مذكرات هاشمي رفسنجاني، صدر منها للآن (19) مجلداً، والمتبقي (17) مجلداً. هذا عدا كتب تكميلية أُخرى رصدت خطبه في صلاة جمعة طهران على مدار (28) عاماً، مضافاً إلى مجموعة ثانية ضمّت لقاءاته الصحفية ومحاوراته مع الإعلام الداخلي والخارجي، وثالثة وثّقت أحاديثه في مختلف الندوات والمواسم والمؤتمرات، والتصريحات التي كان يدلي بها في زياراته، لتقترب الحصيلة من (70) كتاباً.

هذه هي الحصيلة الأولية من دون أن يدخل في عدادها، كتابه عن رئيس وزراء إيران المعروف في العهد القاجاري أمير كبير (1807 - 1852م) وموسوعته عن مفاتيح مصطلحات القرآن، وغير ذلك من مؤلفاته الصغيرة أو ما يرتبط بتراثه، وبعضها مهم جداً كالمحاورات التي أُجريت معه وصدرت في كتب مستقلة، كما هو الحال في كتاب أصدرته مؤسّسة "كيهان"، وآخر أصدره أستاذ العلوم السياسية صادق زيبا كلام، وكان آخر ما اطّلعتُ عليه قبل وفاته بقليل، كتاباً ضمّ أربع محاورات صريحة معه، أصدرها المستشار غلام علي رجائي بكتاب، حمل عنوان: "في المرآة".

لو تركنا كلّ شيء وتأملنا بمذكراته التي دأب على تدوينها يومياً على مدار (36) عاماً، بإصرار ومثابرة دون انقطاع أو توقّف حتى ليوم واحد، فسنجد أنَّ الرجل كان يخطّط لحياةٍ أخرى يعيشها بعد موته من خلال هذه المذكرات، خاصة أنَّ الكلام يدور هنا عن نحو (30) ألف صفحة من مسؤول شغل أعلى المناصب في إيران، وكثيراً ما عُدّ بأنه الرجل الثاني في النظام، على مدار أكثر من ثلاثة عقود.

لم أجد أحداً في إيران استطاع تجاهل مذكرات رفسنجاني، سواء على المستوى السياسي أو مستوى التوثيق التأريخي، بصرف النظر عن الموقف منها الذي يعتمد بدوره على الموقف من رفسنجاني نفسه؛ فالمختلف والمؤتلف والمعارض والمؤيّد يستشهد بمحتوى هذه اليوميات، لتأكيد رؤيته وتعزيز قراءته؛ وهذا ما حصل تماماً هذا العام.


الأسرار الثلاثة

سأعطي مثالاً لسلاح المذكرات استعمله محسن نجل هاشمي رفسنجاني في الذكرى السادسة لوفاة والده. لكن قبل ذلك من الضروري أن نعرف أنَّ رفسنجاني وأسرته أطلقوا عام 1990م داراً للطباعة والنشر، بعنوان: "مركز نشر معارف الثورة" اختصّت بنشر مذكرات رفسنجاني وكتبه وعموم ما يرتبط به من تراث، وإن لم تقتصر عليه.

يترأس هذه الدار وما يزال يشرف عليها "محسن" أكبر الأبناء الثلاثة لرفسنجاني، وقد سارت الدار على خطة الظاهر أنها من وضع رفسنجاني نفسه، بحيث يُصار إلى نشر مجلد من المذكرات كلّ عام تقريباً، على النحو الذي يكون فيه الفارق الزمني بين تدوين رفسنجاني لهذه اليوميات، ووصولها إلى القارئ مدّة تتراوح بين 15 إلى 20 سنة. على سبيل المثال، المجلّد الأول من هذه المذكرات، وهو يحمل عنوان: "تجاوز الأزمة" (عبور از بحران) كتبه رفسنجاني بخطّ يده ليمثّل يومياته لعام 1981م، لكنه لم يُطبع علناً ويصبح بيد القرّاء إلا عام 1999م، بعد مرور أكثر من عقد ونصف على تدوينه، وهكذا حال بقية ما صدر من الأجزاء.

ما فعله "محسن" هذا العام في لقائه مع صحيفة "جمهورى اسلامى" (بتأريخ: 2 كانون الثاني) أنه قدّم للقرّاء "هدية" من مذكرات والده رفسنجاني، تعود إلى يوم الخميس 2 نيسان 2015م؛ أي بنحو عشرين شهراً قبل وفاته، تضمّ وبخطّ رفسنجاني نفسه، إقراراً صريحاً وكاملاً بدوره في إنهاء الحرب العراقية- الإيرانية؛ وتطويق المدّ الأصولي المتشدّد ضمن القضاء على تراث أحمدي نجاد ومدرسته، بمنع وصول أي رمز من رموزها إلى الرئاسة؛ وأخيراً دوره المباشر في توقيع الاتفاق النووي عام 2015م، بعد تردّد الرئيس حسن روحاني في حسم الأمر.


مخاطر السلاح

لو أخذنا بالتوقيتات الزمنية لما صدر من مذكرات رفسنجاني حتى الآن، فقد كان من المرتقب ألا نطّلع على هذه المعلومات بخطّ رفسنجاني، قبل أقلّ من عقد من السنين على الأقلّ، لكن السلاح بيد من يملكه وقد شاء "محسن" الإفشاء به الآن، وهذا هو عين ما أقصده من إطلاق مصطلح "السلاح" على مذكرات "الشيخ"، لكن من دون أن نغفل ما يحيط هذه الذخيرة أو السلاح من مخاطر، رأينا بعضاً منها في المجلد رقم (19) الذي صدر قبل بضعة أشهر، بعنوان: "الحضور والانصراف" وهو يعكس يوميات "الشيخ" والبارز من حوادث البلد عام 1999م، ومن أبرزها ترشيح رفسنجاني للانتخابات البرلمانية عن طهران، وإخفاقه في الصعود لأول وهلة، ثمّ صعود اسمه بعد عملية متعثّرة وغامضة، ما أدّى إلى استقالته بعد هذه الضربة المهينة، وفشله في إحراز ثقة أبناء العاصمة بشخصه، وأن يحتلّ بجدارة أحد الكراسي الثلاثين لطهران.

فما حصل مع هذا الجزء الأخير من المذكرات، أنَّ وزارة الثقافة على عهد حكومة إبراهيم رئيسي الحالية، أخضعته للضوابط المألوفة التي يخضع لها أيّ كتاب في العادة، بما في ذلك إخضاعه إلى الرقابة، وذلك على عكس المجلدات التي سبقته، التي صدرت دون مرور على الرقابة.

في عملية الرقابة الروتينية ارتأت وزارة الإرشاد حذف بعض ما قدّرته غير مناسب من المذكرات، ما وضع "محسن" وداره في موقع محرج، بين أن يستجيب للحذف في مذكرات والده، أو يطبع الكتاب خارج إيران، قبل أن يستقرّ الأمر على تسوية انتهت بعد عسر، تمثلت بتقليل موارد الحذف لأقلّ مستوى، وهذا ما كان.

هذه رسالة تمهيدية قد تتطوّر بالاتجاه الذي يمنع طباعة بقية أجزاء مذكرات رفسنجاني، ما قد يدفع إلى طباعتها بالخارج وتحويلها إلى سلعة مهرّبة؛ إذ للسلطة دائماً منطق واحد لمحاصرة من يعارضها ولو بالرأي، ومغرور بل غبي من يظنّ نفسه فوق منطق السلطة، ويتعالى على لغتها وقوانينها ويحسب أنه بمأمن من غضبها وبمنأى عن طغيانها، كائناً من كان.

وآية ذلك بالنسبة إلى الشيخ رفسنجاني أنه رأى بأمّ عينيه وقبل أن يلحّد بالتراب، اثنين من أولاده في السجن، هما "مهدي" و"فائزة"، وفي هذا شيء مما أقصده بمنطق السلطة، والقادم مجهول.


الحرب وروحاني والنووي

بالعودة على ما كشفه "محسن" من أوراق والده، نجد رفسنجاني يؤكد أنَّ له دوراً مهمّاً نهض به في المنعطفات الحاسمة من عمر إيران، ركّز من بينها وبخطّ يده على دوره في إيقاف الحرب العراقية- الإيرانية، مما هو معروف وسبق ذكره، إذ قام بإقناع السيد الخميني نفسه بعدم إمكان حسم الحرب عسكرياً، فضلاً عن تحقيق الانتصار.

لكن الجديد الذي نقرؤه في هذه الصفحة من التأريخ، ما ذكره رفسنجاني من أنَّ الأمر صعب على السيد الخميني، وهو من كان يدعو إلى القتال ومواصلة الحرب بأيّ ثمن، وقد ذكر ذلك ثمّ اقترح "أن يعتزل القيادة" ويواصل رفسنجاني وأقرانه من كبار أركان النظام (الخماسي: رفسنجاني، خامنئي، أردبيلي، مير حسين موسوي، بالإضافة إلى أحمد الخميني) إدارة الموقف، فرفض رفسنجاني ذلك واقترح أن يعلن هو رسمياً وقف إطلاق النار، ويتحمّل المسؤولية بمحاكمته عن ذلك، لاسيّما أنه المسؤول عن ملف الحرب، ومساعد القائد العام للقوّات المسلحة. بديهي رفض الخميني وتحمّل المسؤولية شخصياً.

الملف الثاني الذي ذكره هو اتجاه الأصوليين في الانتخابات الرئاسية عام 2013م، لمواصلة خطّ أحمدي نجاد بإيصال مرشح من المدرسة نفسها، وهو ما تصدّى له كثيرون ولاسيّما ناطق نوري ومحمد خاتمي وحسن الخميني، والحلّ الذي اختاره رفسنجاني هو التجاوب مع دعوات ترشيحه، وقد فعل ذلك، لكن الخطة فشلت بقرار خبراء الدستور بعدم أهليته، متعذّرة بتقدّم سنّه.

يذكر رفسنجاني نصاً بأن خبراء الدستور أصدروا قرارهم تحت ضغوط وزير الأمن الشيخ مصلحي، ما دعاه ورفاقه للتحوّل إلى الخطة البديلة عندما أجمعوا أمرهم وراء روحاني، وطلبوا من المرشّح الإصلاحي محمد رضا عارف أن يسحب ترشيحه، وقد نجحت الخطة وصعد حسن روحاني للرئاسة. يقول رفسنجاني نصاً: "بعد أن أخذتُ قراري وسجّلتُ اسمي مرشحاً للرئاسة، عمّ الشارع موج من الفرح العارم ما لبث أن هزّ البلد بعد ساعات. ومع أنَّ مجلس الخبراء ردّ أهليتي بإصرار من مصلحي وزير الأمن، وبذريعة تقدّم السنّ، إلا أنني وجهتُ هذا الموج الشعبي العظيم وراء د. روحاني، ففاز وتحرّرت الحكومة من قبضة المتطرفين، وساد الاعتدال والأمل".

بشأن الملف الثالث يذكر رفسنجاني أنَّ الرئيس روحاني ووزير خارجيته ظريف، كانا مترددين بعد أسبوع من مفاوضات لوزان، يقول نصاً: "ذهبتُ في الساعة 3,45 دقيقة بعد الظهر إلى مكتب (الرئيس) روحاني، وأقنعته خلال مدّة قصيرة بالإقدام، وذكرتُ له مؤامرة المتطرفين، وهو لم يُنكر ذلك. بادر (روحاني) من فوره بإقناع ظريف، فانقلب الموقف وذهب اليأس وحلّ التصميم والأمل"، فَولد الاتفاق النووي عام 2015م.


المحصلة الأخيرة

من أهمّ وأخطر ما اطلعتُ عليه في ملف الذكرى السادسة لوفاة رفسنجاني، لقاءً مطولاً مع رئيس مكتبه وصهره والأمين العام الحالي لحزب "كوادر البناء" (كارگزاران سازندگى) حسين مرعشي، وهو مراجعة تقويمية عميقة ومطوّلة للواقع الإيراني، اقترن بنقد للشيخ رفسنجاني، وكشف لأسرار يُعلن عنها لأوّل مرّة، ساعد في جدّية هذه المراجعة وعمقها جدية المحاور، الصحفي اللامع والكاتب والسياسي أحمد زيد آبادي.

كما لا أودّ أن أترك هذه الفرصة دون الإشارة إلى حوار آخر يحمل الخصائص نفسها، أجراه موقع "جماران" مع علي مطهري، أعلن بضرس قاطع أنَّ إيران عرفت موجات من عدم الاستقرار بعد غياب رفسنجاني، وأنَّ هذا الأخير كان صمام أمان افتقده البلد، بموت غامض مثير للشك، وجه فيه مطهري أصابع الاتهام إلى مخابرات خارجية، ولم يستبعد تدخلاً روسياً بهذا الشأن.

لا أشكّ أبداً بذكاء رفسنجاني أو بعض خصائصه في الإدارة، لكن طغيان فرديته يعود برأيي إلى عوامل متعدّدة؛ منها أنَّ الوضع المؤسّسي لا يزال هشاً، لم يتحوّل رغم وجود المؤسّسات وكثرتها إلى مسار عريض؛ كما وتعدّ هذه الفردانية مؤشراً على غياب الحزبية في إيران بالمعنى المنهجي والوظيفي، فيتحوّل الأفراد إلى حوامل أقوى من الأحزاب؛ وأخيراً يحلو لبعض الأنثربولوجيين والاجتماعيين الإيرانيين، أن يقرأ طغيان الفردانية في نطاق ثقافي- سيسيولوجي، وهو يذهب إلى أنَّ التطلّع للفرد الأعلى الماورائي (ما وراء الخصائص العادية) والأنموذج المغموس بلون من القداسة، هو واحد من سمات خصائص الشخصية الإيرانية ومن صميم ثقافتها.