بغداد: نوارة محمد
أرجعت سارة شعرها إلى الخلف، ثم رفعت رأسها، وهي تقف لصق الحائط، متصلبة الساقين تحت صورة قديمة للملك غازي.
- أريدها صورة تصلح لغلاف صفحتي الشخصية.
وحين حدست أنه لن يفهم، عادت لتقول:
- خذ بنظر الاعتبار توافق طولي مع لوحات الجدار.
كانت صالة المطعم تزدحم بقطع الانتيكا وصور بغداد القديمة مزيّنة جداراً كاملا، بينما في الصدر أريكات من الطراز القديم، وهذا سببٌ كافٍ لتقف سارة وأخريات بالطابور، لالتقاط الصور الشخصية أمام البوابة وعند الجدران.
في هذه الأوقات أخذ الشُبان ينحازون إلى فكرة متعة توثيق اللحظات. اشتعلت أضواء كاميرات "الموبايل" وأصبحت الوجوه تعتز بهذه الظهورات، حتى أن كثيرين اختاروا محركات البحث منصات لتوثيق حيواتهم الشخصية بكامل تفصيلاتها.
على مدار السنوات الاخيرة صُنف جنون التصوير "بالموبايل"، الذي أصاب العالم كحالة هوس غير طبيعية، إذ لا تكاد تخلو حقائب الفتيات وجيوب الشُبان وكبار السن والصِغار من كاميرا الهاتف الرقمية، التي أصبحت محور الحياة، وبكبسة زر صرنا نشاهد مليارات الصور وملايين المتفاعلين في هذا العالم الالكتروني بسرعتهِ الجنونية. وبحسب مصادر فقد أعلنت إدارة شركات "فيسبوك وانستغرام" أن أكثر من ملياري مستخدم ينشط في الفيسبوك ينشرون 300 مليون صورة يوميا، وأكثر من 40 مليار صورة تُشارك يوميا في العالم على تطبيق انستغرام، مما ساعد في ذلك التطور الكبير في عدسات الكاميرا الذي تطلقهً الشركات المصنعة للهواتف الذكية والكاميرات وتطبيقات الفوتوشوب والتعديل، فضلاً عن "فلاتر سناب جات وانستغزام" التي تمارس دورها في رفع معنويات مستخدميها وتشجعيهم على التقاط المزيد من الصور.
الأمر لن يقف عند هذا الحد، فسرعان ما أتاحت المواقع الاجتماعية هذه الفرصة الذهبية وأشاعت مهنة التدوين، وأصبحت واحدة من أفضل المهن الحرة الرائجة في العالم، والتي لا تحتاج سوى عدسة كاميرا وجمهورٍ كافٍ ومحتوى ترويجي، لكن التساؤل الذي يراودنا كما الكثيرون. هل الحياة أصبحت مادة دسمة للتصوير؟ عن هذا يقول علي سعد الناشط والمدون، الذي عُرف باسم "ماركو" في منصات التواصل الاجتماعي، والذي بلغ عدد متابعيه على صفحاته في الفيسبوك وانستغرام 600 ألف متابع: في زحمة الانشغال في استعراض الحياة الشخصية لمن يعرف ومن لا يعرف، اخترت الكوميديا الساخرة والنقد الممزوج بالفكاهة في مقاطع عفوية. حدث ذلك منذ أن سجلت أول مقطع انتقدت فيه ظاهرة معينة. نعم الحياة بشكلها المعقد أصبحت مادة جاهزة للتصوير، والتصوير بدا كُل حياة الاخرين. زينة مكي استاذة اللغة الفرنسية تمقت ظاهرة التصوير العشوائي في الأماكن العامة، إذ لم تعد قادرة على التصرف بأريحية، تقول منتقدة انعدام المسؤولية لدى العديد من الأشخاص، الذين يمتهنون التصوير في الأماكن العامة بدون دراية منهم، وما يغيظها مسارعة البعض لنشر تلك الصور على مواقع التواصل الاجتماعي دون إذن: لم نعد قادرين على ممارسة الحياة بتلك البساطة، فعدسات الكاميرات جاهزة على الدوام، يجب أن نكون شديدي الحرص كما لو أننا خاضعون لأمزجة مُحبي التصوير، الذين لن يترددوا في التقاط الصور ونشرها خلال أجزاء الثواني. لكن سمارة الصالحي، التي درست هندسة التصميم الداخلي تهتم بالتصوير، وترى أن من الضروري أن توثّق تفصيلات حياتها لتشارك الآخرين كل صغيرة وكبيرة في مقاطع فيديوية، وبثوث حي وصور معدلة بالفوتوشوب تبين: في زمننا هذا أصبح من الضروري مواكبة العالم الحديث، أتاحت لنا هذه العاصفة توثيق كل ما نصادفه بهدف الذكرى ومشاركة الآخرين، أنه أكثر الأنشطة العصرية انتشاراً، وأنا لن أتردد في ذلك ما دامت الفرصة متاحة، لي والعالم.