عبد الهادي مهودر
الساعة الواحدة ظهراً بتوقيت لندن من يوم الجمعة (27 كانون الثاني 2023) كأنها لحظة القتل الرحيم للقسم العربي من الإذاعة البريطانية (بي بي سي) تنفيذاً لقرار إنهاء حياتها التي دامت 85 عاماً، وشتان ما بينها وبين بديلها على الإنترنت وما بين زمانها وزمن منصات التواصل الاجتماعي، فيسبوك وتويتر وانستغرام، هذا الزمان ليس زمانها الذي اقترن بالرصانة والجودة والأصوات الرخيمة وإنما زمن التحولات المقترنة بالتفاهات والمحتويات الفارغة، وزمن (الفاشينيستات) في بلاد الرافدين على غرار زمن فيفي عبدة في بلاد النيل، وهذه الإذاعة امتد بها العمر حتى غدت مثل عزيز قومٍ ذَل، وعجبي أن تستمر عشرات الإذاعات ببث برامجها وتملأ الأثير بالأصوات النشاز، وتموت الإذاعة التي يجب ألا تموت، وعجبي من قرار بقتلٍ عمد لمؤسسة عريقة لارتفاع تكلفة التشغيل والتغيرات التكنولوجية وتحديات التحول الرقمي واختلاف عادات الجمهور، وكل هذه الحجج التي تبدو مقنعة وواقعية ومنطقية، تبدو حججاً ضعيفة أيضاً ولا تعادل التضحية بمؤسسة إعلامية تمتلك كل هذا الرصيد الذهبي من السمعة والموثوقية التي لا تبنى بسهولة في العمل الإعلامي، وبالحجج نفسها يجري إنهاء حياة كبريات الصحف وتسريح آلاف الصحفيين، هذه الشريحة المرشحة للانقراض والزوال من على وجه الأرض في ظل الحجج المنطقية والتحولات والأمر الواقع، ومع توقف (بي بي سي العربية) بعد مجدها الإعلامي الذي أمسى خبراً يجب أن ترتعد فرائص الإذاعات العربية وتعرب عن قلقها الشديد لأن ما ينطبق على غيرها ينطبق عليها إذا اعتمدنا الحجج المنطقية ذاتها، أو تستمر وتثبت أن حجج (الانگليز) ضعيفة ومتعسفة بحق إذاعة لندن، وفي هذا العالم المليء بالتناقضات ودّعنا (هنا لندن) بحجج انعدام الجدوى الإعلامية والاقتصادية، لكننا نواصل استحداث كليات للإعلام وتفقيس وتفريج وتخريج المئات من الطلبة سنوياً، في كليات ما زالت تدرّس طلابها أساسيات الإعلام التقليدي ونظرية العض بين الرجال والكلاب (إذا عض كلب رجلًا، هذا ليس خبرًا، أمّا إذا عض رجل كلبًا، فهذا هو الخبر) لكن الطلاب المعضوضين بالأقساط السنوية الباهظة لا يجدون فرص عمل في نهاية المطاف، والذين عضّوهم سيشرحون لهم الأسباب المنطقية لظاهرة البطالة بين الخريجين وعلاقتها بالتحولات وكيف تغيّر العالم بعد تخرجهم فوراً، للأسف الشديد، وأن الزمن عضّ الجميع والمعادلة بين المدخلات والمخرجات اختلت ولم تعد هذه المهنة (توكل خبز)، طريقك مسدود يا ولدي وعليكم بالأعمال الحرة والقطاع الخاص، ومن المؤمل أن يكون لدينا قطاع خاص حين تدق ساعة (بيغ بين) مرة أخرى من القسم العربي في إذاعة لندن.