نفَس حكومة

آراء 2023/01/31
...

  د.عدنان الجياشي


في يوم من أيام العام 1994، تفاجأ السكان في إحدى قرى جنوب العراق بالآليات الثقيلة وهي تشرع بعملية شق احد المبازل، بدا أن أشجارا وبساتين وأراضي زراعية وحتى منازل سيجعلها المشروع الجديد أثرا بعد عين، و في عز الصدمة جاء رجل «يسعى» قائلاً للأهالي: إن فرقا من وزارة الري زارت المنطقة قبل (31) عاماً، وقامت بمعاينة المنطقة ودق بعض قضبان الحديد قبل أن تغادر، وها هي تعود بعد كل هذا الوقت لإنجاز ما بدأته آنفاً.

تذكرت هذا الموقف وأنا اتابع زيارة رئيس الوزراء «محمد شياع السوداني» إلى باريس، وفي الأجندة إنشاء مشروع «مترو بغداد» الذي أعدت مخططاته بعد 2003، وقد تم التعاقد عليه مع شركة فرنسية متخصصة في 2006، قبل أن تذهب الفكرة «أدراج الرياح»، بعدما تعاقبت عليها (6) حكومات دون أن تضع «قضبانا» واحدا على السكة، أو تقيم «محطة» في أرجاء العاصمة المزدحمة.

منذ نعومة أظفاري وأنا أسمع عن (نِفَس الحكومة) بكسر النون وفتح الفاء، فأستغرب من بطء اجراءاتها، وعجزها الشديد عن الإسراع بالمشاريع الحيوية، متكئة على تراث من «الروتين» القاتل، الذي تدور فيه مخططات المشاريع ألف دورة قبل أن تحط على الأرض، من دون الاكتراث لحاجات المواطن الماسة، أو الأضرار الفادحة التي يسببها هذا «النفس» مادياً وإنسانياً.

كأن مترو بغداد «ترفٌ» أو مشروع «للمستقبل»؟ وليس ضرورة مُلحة لمدينة أصبحت بين الأعلى كثافة في المنطقة، كأن (20- 30) عاماً رقما مألوفاً يقص الحاكم شريط الافتتاح بعده والابتسامة تعلو محياه محتفيا بإنجاز «غير مسبوق»، وهو لا يعلم أن الوقت المستغرق قد التهم جهوداً كبرى كان يفترض أن توجه لمشاريع أخرى بدل أن تبقى تراوح مكانها دون حراك.

لو قُدّر لكل مشروع أن ينجز وفقا للمدة المقررة لأصبحنا الآن في طور «التعزيز» لا الإنشاء، ولوفرت الدولة مبالغ طائلة ترصد في الميزانيات كـ «تخصيصات» لبعض المشروعات، ثم تتلاشى دون أن يستدل عليها أحد، وإذا ما صدقت الأرقام الكاشفة عن (1700) مشروع «معطل»، ذهبت نسباً معتبرة من أموالها لجيوب «مقاولين» و «متنفذين»، فهذا كله نتاج للنفس البطيء الذي بدد مقدرات «هائلة»، ومن ثم راكم المشروعات الواجب إقامتها، واضعا الحكومات في مآزق لا تنتهي.

أفهم أن المنطق يتطلب «النفس الطويل» في المشاريع ذات البعد الستراتيجي، الا في العراق، إذ أنعمت «الديمقراطية» علينا بتغييرات دورية على الوزارات والإدارات، فيتجاهل «الخلف» تخطيط السلف، وعندما يراد تجريد «المستفيدين» من تسهيلات السابقين، ينزوون «طافرين» بالدخل، وتبقى المباني والجسور وسواها، مجرد هياكل فارغة تذروها الريح..

مهم جداً أن نوقع على تنفيذ «مترو بغداد»، لكننا نخشى من «نَفَس الحكومة» مجددا، فيبقى قائماً على الورق حتى حين.