تمَّ حلُّ اللغز.. كيميائيون يفككون شفرة الخرسانة الرومانيَّة

علوم وتكنلوجيا 2023/01/31
...

 كارولين غراملينغ

 ترجمة: شيماء ميران


كان الكيميائي "أدمير ماسك" الذي يعمل بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا يأمل حقاً ألا يتمَّ التقليل من شأن تجربته. فقد حاول مع زملائه إعادة إنشاء تقنية رومانيَّة قديمة لصنع الخرسانة، وهي عبارة عن مزيجٍ من الاسمنت والحصى والرمل والماء. وظنَّ الباحثون أنَّ مفتاح هذه العمليَّة هو ما يسمى بـ "الخلط الساخن"، إذ تُخلط حبيبات أوكسيد الكالسيوم الجافة، والتي تُعرف بالجير الحي مع الرماد البركاني لصنع الأسمنت، ومن ثم يضاف الماء.


تحمل الهياكل لما يتلفه الزمن

اعتقدوا أنَّ ناتج هذه العمليَّة في النهاية اسمنت، لكنَّه لم يكن مخلوطاً ناعماً تماماً، وبدلاً من ذلك احتوى على صخورٍ صغيرة غنيَّة بالكالسيوم، والموجودة بكثرة في جدران المباني الخرسانيَّة الرومانيَّة، وقد تكون هي السبب في تحمل تلك الهياكل لما يتلفه الزمن.

لا يُصنع الاسمنت الحديث بهذه الطريقة. ولأنَّ تفاعل الجير الحي مع الماء طاردٌ للحرارة العالية، فهذا يعني أنه قد يولد حرارة عالية، وربما انفجاراً.

يقول ماسك: "سيقول الجميع عني اني مجنون".

لكنْ لم يحدث أي انفجار كبير، بل أنتج التفاعل حرارة فقط، وتصاعداً رطباً من بخار الماء، ومزيجاً اسمنتياً يشبه الاسمنت الروماني، يحمل صخوراً بيضاء صغيرة غنية بالكالسيوم.

مع أنَّ الباحثين يحاولون منذ عقود إعادة إنشاء الوصفة الرومانيَّة لإطالة عمر الخرسانة، لكن لم يصلوا لتحقيق ذلك، فكانت فكرة الخلط الساخن هي المفتاح.

كان ماسك وزملاؤه يملؤون النصوص التي دونها "فيتروفيوس" لمهندسٍ معماري روماني، والمؤرخ "بليني"، والتي قدمت بعض الدلائل حول كيفيَّة تطبيق ذلك. وأشارت النصوص مثلاً إلى مواصفات دقيقة للمواد الخام، مثل أنَّ الحجر الجيري وهو مصدر الجير الحي يجب أنْ يكون نقياً جداً، وأنَّ خلطه بالرماد الساخن المضاف إليه الماء قد يولد حرارة عالية، ولم تُذكر أية صخور.

يقول ماسك: "في كل عينة فحصناها من الخرسانة الرومانيَّة القديمة، تجد هذه الشوائب البيضاء في الصخور المغروسة بالجدران، ولم يكن واضحاً منشؤها لعدة سنوات، ربما اشتبه العلماء بأنَّ خلط الاسمنت غير كامل، فإنَّ الرومان الذين نتحدث عنهم هم بدرجة تنظيم عالية".

وبحسب العلماء لو كانت هذه الشوائب في الاسمنت ميزة وليست عيباً، فإنَّ التحليلات الكيميائيَّة التي أجراها الباحثون لمثل هذه الصخور الموجودة في جدران الموقع الأثري لـ" بريفيرنوم" في إيطاليا كانت غنية جداً بالكالسيوم.

ما يشير الى احتمال أنَّ هذه الصخور قد تساعد المباني على معالجة تشققات جدرانها بسبب العوامل الجويَّة أو حتى الزلازل. كان هناك بالفعل مخزونٌ جاهز من الكالسيوم: سوف يذوب ويتسرب إلى الشقوق ويعيد التبلور.

فكانت الخطوة الأولى إعادة تكوين الصخور بطريقة الخلط الساخن على أمل ألا ينفجر أي شيء، والخطوة الثانية تجربة الأسمنت المستوحى من الطراز الروماني، فانشؤوا خرسانة مع وبدون الخلط الساخن ثم اختبارها. إذ تمَّ تكسير كل كتلة خرسانيَّة إلى نصفين، وتباعدت القطع مسافة صغيرة. ثم تمَّ تقطير الماء من خلال الشق لمعرفة الوقت الذي استغرقه قبل توقف التسرب.


خرسانة تقلل الاحتباس الحراري

يقول ماسك: "كانت النتائج مذهلة". فبحسب الفريق التأمت الكتل الخرسانيَّة التي تحتوي على الاسمنت المخلوط الساخن بغضون أسبوعين الى ثلاثة أسابيع، ولم تلتئم تلك التي أنشئت بدون الاسمنت الساخن.

وهذا ما يفسر أنَّ مبنى معبد البانثيون الروماني وقبته الخرسانيَّة الشاهقة لا تزال شاخصة منذ ما يقارب 2000 عام، رغم أنَّ الرومان لم يكن لديهم قضبان حديديَّة تدعم هياكلهم، مقارنة بالهياكل الخرسانيَّة الحديثة التي يصل عمرها الى 150 عاماً.

الاستبدال المتكرر للهياكل الخرسانيَّة يعني المزيد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. أي أنَّ تصنيع الخرسانة يعدُّ مصدراً كبيراً لثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي، لذلك قد تقلل من انبعاثات الكربون. يقول ماسك: "إنْ صنعنا 4 غيغا طن سنوياً من هذه المادة، فينتج 1 طناً مترياً من ثاني اوكسيد الكربون لكل طنٍ متري من الخرسانة المنتجة، والتي تصل حالياً الى نحو 8 في المئة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالميَّة السنويَّة.

هناك ترددٌ من صناعة الخرسانة المقاومة، لسببٍ وحيدٍ هو خشية إدخال كيمياء جديدة في خليطٍ حقيقي مجربٍ ذي خصائص ميكانيكيَّة معروفة، لكنَّ العقبة الرئيسيَّة لصناعته هي التكلفة، فالخرسانة رخيصة الثمن، والشركات لا تريد إخراج نفسها من المنافسة.

يأمل الباحثون أنَّ إعادة تقديم هذه التقنية التي نجحت في اختبار الزمن، والتي قد تكون تكلفتها مضافة قليلاً، ربما يجيب على هذه المخاوف. في الواقع، أنشأ ماسك والعديد من زملائه شركة ناشئة أطلقوا عليها اسم "DMAT" والتي تسعى اليوم للحصول على تمويلٍ لبدء إنتاج الخرسانة المختلطة الساخنة المستوحاة من الطراز الروماني. ببساطة، هذه المادة جذابة للغاية لقدم عمرها الذي يعود الى آلاف السنين.

عن مجلة ساينس نيوز