أ.د عامر حسن فياض
العدالة تعني إعطاء كل ذي حق حقه وفقاً لقدراته أو جهوده أو كليهما معاً، والمساواة تعني إعطاء الجميع حقوقاً، رغم اختلاف قدراتهم وتباين جهودهم، وتأسيساً على هذا التمييز، فإن زعم النظام الديمقراطي أنه يطبق المساواة من أجل تحقيق العدالة، زعم كاذب ولا صحة له، لأن المساواة لا تحقق العدالة، بل تُخل بها وتنقصها.
وبنى أفلاطون على ذلك، رأيه القائل إن أول شروط نظام الحكم في دولة المدينة الفاضلة، هو شرط مراعاته اختلاف البشر وعدم تساويهم، وذلك يتجسد في إيكال مهات الحكم ومسؤولياته في هذا النظام إلى أهل المعرفة، لأنهم وحدهم القادرون بحكم هذه المعرفة على معرفة الفضيلة وشروطها، ومن ثم حكم المدينة- الدولة وإدارة شؤونها بالفضيلة ومن أجل الفضيلة.
ولن تتحقق الفضيلة إلا بالعدالة وليس بالمساواة، فإن حدث العكس فسيكون هذا الاجتماع عرضة للفساد والانهيار.
وتكمن علّة ذلك عند أفلاطون في مفهومه للعدالة، من حيث إنها تعني “أن يؤدي كل إنسان عمله الخاص به والمؤهل له من دون أن يتدخل في عمل سواه، ويأخذ كل ذي حق حقه وفقاً لقدراته أو جهوده أو كليهما معاً “، أي أن يتخصص كل إنسان في العمل الذي تؤهله له طبيعته وقدرته، وتعده له برامج التعليم والتدريب والمهارات المكتسبة، وينال حقه عن نوع ومقدار الجهد الذي يؤديه، فبذلك فقط تتوطد أركان المجتمع وتتعمق وحدته وتزداد فضيلته حتى يصبح المجتمع الفاضل للمدينة – الدولة الفاضلة.
وواضح هنا أن مفهوم العدالة الأفلاطوني لا علاقة له بمفهومها القانوني الحقوقي المساواتي، بل هو مفهوم فلسفي يستند إلى القاعدة الفلسفية السقراطية الأولى “الفضيلة هي المعرفة”، والتي يَشتق منها أفلاطون فكرته حول اختلاف قدرات البشر ومؤهلاتهم العقلية والجسدية، وضرورة أن يؤدي كل ما هو مؤهل له بطبيعته وقدراته.
فالعدالة في مفهومها الأفلاطوني، هي أن يؤدي كل إنسان عمله الخاص به والمؤهل له، ويأخذ حقه العادل مقابل ذلك، فبذلك فحسب يتحقق الخير للجميع، لأنهم سيعملون ما هم مؤهلون لعمله بطبيعتهم ومدربون عليه في ما بعد، وينالون حقهم مقابل ما أدوه من عمل، فيحصل كل منهم من الآخر على افضل ما يمكنه عمله لنفسه أولاً وللآخرين ثانيا.
ويجعل ذلك من العدالة، فضيلة خاصة وعامة في الوقت ذاته، وهي أقرب إلى المثل الأخلاقية منها إلى القيم السياسية، لأن معناها يرتبط بامتناع الإنسان عن إتيان الأفعال لمجرد رغبته فيها أو حاجته إليها، لان المصلحة الحقيقية لأي إنسان ومجتمعه ودولته، هي أن يفعل ما هو مؤهل له بطبيعته وسجاياه فحسب، لا أن يفعل ما يرغب أو يحتاج أن يفعل.
ولا تعني مثالية العدالة وأخلاقياتها عند أفلاطون المساواة، بل هي على العكس من ذلك تماماً، لأنها اعتراف باختلاف البشر وعدم تساويهم في القدرات الجسدية والمؤهلات العقلية، ومن ثم اختلافهم وعدم تساويهم في الواجبات والحقوق، وهذا هو الأساس الصحيح لإدارة الدولة وتنظيم المجتمع في مدينته الفاضلة فكراً وتطبيقاً.
ويستنتج من ذلك أن مجموع الفضائل الفردية والاجتماعية وكمالها، ينتج عن فضيلة العدالة التي لا يحملها في رأيه إلا أصحاب المعرفة/ الفلاسفة، لأن المعرفة هي الفضيلة والفضيلة هي المعرفة.
ويجب أن توضع مقاليد السلطة ومفاتيح الحكم بيد أصحاب فضيلة العدالة هؤلاء، لأنهم وحدهم الذين تؤهلهم طبيعتهم ومؤهلاتهم وتجربتهم لإدراك الخير الحق، ليس في السياسة فحسب، بل وفي أوجه الحياة وجوانبها كلها.