طالب سعدون
لست من هواة كرة القدم ولا الرياضة عموما عدا ممارسات بسيطة كنت أقوم بها لتنشيط جسمي ومنها (المشي)، وقد توقفت عنه بعد أن هاجمني المرض الذي حدد حركتي ووزع وقتي بين جدران البيت الاربعة والمستشفى.. لكن في مباراة العراق الخليجية العربية كنت كغيري مشدودا اليها بكل عواطفي وتمنياتي بالفوز، لانه في تقديري سيوزع الفرح بين كل الخارطة الوطنية، ويقدمنا للعالم على حقيقتنا وليس من خلال ما يسمعه أو يقرأه عنا..
ليست المرة الاولى التي يفوز بها العراق عربيا أو خليجيا فقد فاز بالبطولة العربية عام 1966 على أرضه في ملعب الكشافة وبطولات اخرى كثيرة، لكن كان للفوز في البصرة طعم اخر.. وظهرت الرياضة على غير ما عرفت به بأنها فوق السياسة، بل في صلبها تعزز وحدة الشعب بعد أن حاولت السياسة تقسيمه بمبدأ غريب عليه هو المحاصصة والمكونات، وأثبت انتماءه لهويته وعمقه العربي وتمسكه بثوابته وصفاته الوطنية التي تجسدت في سلوك اهل البصرة الكرام – كما هم العراقيون جميعا - مع ضيوفهم..
الرياضة مارست دبلوماسيتها التي عرفت بها بكل جدارة، لتكون قوة ناعمة ليس في تعزيز وحدة الشعب فقط وانما على مستوى العلاقات الخارجية وتأثيرها في الراي العام العربي بالذات.. ومن هنا فإنه في تقديري ليس الفوز هو الحدث الأبرز، بل عبقرية الشعب في التعبير عنه وتاكيد الانتماء وانتزاع الفرح في احلك الظروف والازمات هي الابرز، وتمثل ذلك في الاحتفالات التي عمت مدن العراق كافة باتجاهاته الاربعة والاستقبال الكبير للمنتخب بعد عودته إلى بغداد.
هناك امثلة كثيرة على قوة الدبلوماسية الرياضية وتوظيفها من قبل الدول لتحقيق غاياتها على الصعيد المحلي أوالخارجي بما في ذلك صراعاتها وخلافاتها وقضاياها وتطوير اقتصادياتها.. ومن بين هذه الادلة قيام الولايات المتحدة بانشاء قسم للدبلوماسية الرياضية بعد احداث 11 سبتمبر، بهدف الوصول إلى الشباب في المنطقة عن طريق الرياضة.. لكن الغريب أن دولاً متقدمة كثيرة منها أميركا نفسها لم تهتم بالرياضة ومباريات كأس العالم كما هو اهتمام دول أخرى، خاصة الدول النامية ومنها منطقتنا.. ومن المفارقات ان اسرائيل لم تبدِ اهتماما في هذا المجال ايضا!.
لقد حاولت دول كثيرة على مر تاريخ كرة القدم تحويل هذه الرياضة من ممارسة إلى مناسبة، تعبر بها عن حقيقتها أوتوجهاتها أوغاياتها وسعيها لحل الخلافات مع غيرها وخلق فرص للتعاون والاستثمار أو العكس، ومع ذلك هناك من يرى أن هناك حالة من عدم التوازن والعدالة في الرعاية بين النشاطات.. فما تحظى به الرياضة من اهتمام وتكريم وشعبية يفوق قطاعات اخرى تتقدم عليها في الاهمية والتأثير أو تساويها.. ويورد امثلة على ذلك منها التكريمات الكثيرة والحفاوة الكبيرة، التي حظي بها المنتخب العراقي بعد فوزه في خليجي 25.. ويتساءل آخر ما هو الأثر الذي تركه هذا الفوز وتكاليفه الكبيرة على الثقافة والتنمية والصناعة والزراعة وسعر الدولار وقضايا التعليم والصحة والخدمات عموما، وتغيير مستوى خط الفقر واستعادة ما سرق والقضاء على الفساد وتوفير السلع للمواطن باسعار معقولة ؟.. ويقول آخر لو صرفت هذه المبالغ على بناء مدارس بدلا من مدارس الطين في البصرة لكان أفضل للمحافظة والاجيال.. ويقارن آخر بين حالة الرياضة والثقافة والإعلام، ويرى أنه ما كان لهذه العبقرية الشعبية أن تتجلى بهذه القوة والوضوح والتعبئة والانتشار الواسع والعبور إلى آفاق العالم الواسعة، لولا الاعلام من خلال التغطية الواسعة من مختلف وسائله.. ومع ذلك لم يحظ هؤلاء بما حظى به اعضاء المنتخب ويستشهد بمكافأة الصحفيين والفنانين والادباء التي لم تصرف على مدى سنوات، ومن ثم جرى تقليلها إلى ان استقرت على مبلغ بسيط جدا أو تأخيرها حتى اصدار الموازنة.
فهل هو عصر القدم وليس القلم كما يرى توفيق الحكيم عندما قال (انتهى عصر القلم وجاء عصر القدم.. فاصبح اللاعب ياخذ من الرواتب في السنة الواحدة ما لا يأخذه جميع أدباء مصر منذ فترة اخناتون حتى الوقت الحالي) ام تغيرت الحال والأدوار؟.
لقد برز فهم جديد في العالم للادوار ومنها دور الرياضة امتد إلى مختلف مرافق الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية، ومنها الشعبية وظهر التداخل بوضوح بين السياسة والرياضة والتأثير المتبادل بينهما ناهيك عن صنع الفرح والسعادة وبث روح التعاون والانسجام بين الشعوب والدول، وهذا ما يظهر بوضوح خلال المباريات الدولية اذ تشاهد ازياء شتى ولغات مختلفة وفعاليات متنوعة على مدارج الملعب، تعبيرا عن النسيج الانساني وتعزيز لغة الحوار والسلام والتعاون بين الامم
والشعوب.