اكتشاف القصر الملكي والمعبد المفقودين في مدينة جيرسو القديمة في العراق
البصرة: صفاء ذياب
في تصريحات مثيرة أطلقها وزير الثقافة الأسبق الدكتور عبد الأمير الحمداني، حين كان مديراً لآثار ذي قار، أكّد فيها أن من الهبات التي منحها النظام السابق لآثار أور وأريدو وغيرهما من آثار المدن الجنوبية أنّ ذلك النظام أهملها واتجه إلى آثار بابل ونينوى، فلم ينقّب ذلك النظام في هذه الآثار أكثر من 25 % من تلك الأراضي، وهو ما دفع الكثير من الآثاريين منذ العام 2003 وحتى اليوم للاتجاه إلى أور والمناطق المحيطة بها للبحث عن كنوز سومر وما بعدها من الحضارات التي ازدهرت فيها،
فمع كل فريق تنقيب جديد، يتم اكتشاف آثار جديدة تغيّر من وجهة نظر علماء الآثار، الذين كان من بينهم البروفيسور فرانكو داغوستينو، إذ أصدر في العام 2021 كتابه (السومريون) باللغة الإيطالية، يقدّم فيه طروحات جديدة حول لغة وثقافة السومريين.
غير أن الأمر لم يقف على حملة تنقيبية واحدة أو عالم آثار واحد، إذ استمرّت التنقيبات، حتى أعلن فريق من علماء الآثار يرأسه الدكتور سيباستيان ري وفاطمة ياسر حسين اكتشاف بقايا لقصر مفقود يعود لأحد ملوك مدينة جيرسو، في تيلو في العصور الحديثة، جنوب العراق. وهذا الاكتشاف المهم الذي يعود تأريخه إلى ما لا يقل عن 4500 عام في الألفية الثالثة قبل الميلاد هو إحدى النتائج، التي خرج بها مشروع جيرسو، وهو مبادرة مشتركة، بين المتحف البريطاني والهيئة العامة للآثار والتراث وصندوق ومتحف جيه بول جيتي, ترمي إلى تطوير منهج جديد شامل لإنقاذ مواقع التراث المهددة بالانقراض، وهو ما دوّنه المتحف البريطاني في تقرير خاص، ترجمه لصحيفتنا المترجم أمير دوشي.
وأضاف المتحف أنَّ تيلو هو الاسم العربي الحديث لمدينة جيرسو السومرية القديمة، إحدى أقدم المدن السومرية المعروفة في العالم. وتعدُّ سومر من أوائل حضارات العالم القديم أمّا الموقع فهو أحد أعظم كنوز العراق. وكان السومريون قد اخترعوا الكتابة ما بين عام 3500 وعام 2000 ما قبل الميلاد، وهم من بنوا أولى المدن وسنّوا أول مدونة قانونية. وكان اكتشاف جيرسو قبل 140 عاماً قد أظهر للعالم عن وجود الحضارة السومرية وسلّط الضوء على بعض أهم آثار الفن والعمارة في بلاد ما بين النهرين.
ويضيف التقرير: في العام الماضي، تمَّ العمل الأوّلي بتقنيات الاستشعار عن بعد في موقع جيرسو باستخدام أحدث التقنيات وصور الطائرات بدون طيار، إذ تمّ تحديد بقايا مهمّة لهيكل تحت سطح الأرض لم يكن معروفاً من قبل في موقع تلّ الألواح. هذا وقد عانى الموقع ما عانى من أعمال التنقيب المدمّرة في القرن التاسع عشر والصراعات في القرن العشرين. ويعدُّ القصر اكتشافاً جديداً مهمّاً، وهو يشير إلى أنَّ البقايا القديمة التي لم تتأثّر بالحفريات حتّى الآن تقع في قلب تلّ الألواح. في خريف عام 2022، تمَّ تحديد أول جدران من الطوب اللبن للقصر وتمَّ إنقاذ أكثر من 200 لوح مسماري وسجلّات إدارية في المدينة العظيمة التي كانت مرميّة في الأكوام التي تعود إلى القرن التاسع عشر، ونقلها إلى متحف بغداد.
ومن الاكتشافات الجديدة التي قد تغيّر رؤيتنا للحضارة السومرية، اكتشاف الحرم الرئيس للإله السومري العظيم، نينجيرسو، الذي أخذت منه المدينة اسمها. تمَّ تحديد المعبد في المنطقة المقدّسة المسمّاة أوروكوك. ويُطلق على المعبد اسم أينينو, طائر الرعد الأبيض, وقد عُدَّ أحد أهم المعابد في بلاد ما بين النهرين. حتّى وقت تجديد الأعمال الميدانية في مشروع جيرسو، كان معبد أينينو معروفاً فقط من خلال النقوش القديمة المكتشفة في الموقع قبل 140 عاماً. هذا وقد استحوذ البحث عن معبد أينينو على عقول أجيال من علماء الآثار. لذلك يعدُّ اكتشافه مؤخّراً علامة فارقة في عمليات التنقيب الجديدة في جنوب العراق بعد عقود من انقطاع العمل الميداني.
ويؤكّد المتحف البريطاني أنَّ مشروع جيرسو، الذي يديره المتحف البريطاني ويموّله متحف جيتي يأتي خطوة مكمّلة للمشروع، الذي أطلقه المتحف البريطاني في عام 2015 وتمَّ تمويله في البدء من قبل الحكومة البريطانية ردّاً على الدمار الذي لحق بالمواقع الأثرية في سوريا والعراق على يد داعش. كما يعالج مشروع جيرسو الأضرار التي سبّبتها كلٌّ من الحفريات المبكّرة، وعمليات النهب الحديثة ويوفّر مستويات عالية من التدريب الميداني وإدارة مواقع التراث العالمي، وتدريب طلاب الآثار والأمناء على الموقع في العراق على تقنيات مفصّلة حول حفريات الإنقاذ. ويشمل ذلك توثيق وإعادة حفر وحفظ بعض أهم بقايا العراق القديم. ودرّبَ البرنامج حتى الآن 27 مشاركاً خلال ثلاثة مواسم. ويقدّم هذا النهج نموذجاً فريداً لتطبيقه في مواقع التراث الأخرى، باعتماد نهج شامل يجمع بين البحث والتدريب والمحافظة على الموقع وإدارة التراث.
من جهته، قام مدير المتحف البريطاني، هارتفيغ فيشر، خلال زيارته الأخيرة إلى العراق في تشرين الثاني 2022، بزيارة الموقع في تيلو وحضر مؤتمراً صحفياً في مقر الهيئة العامة للآثار والتراث في بغداد. وقد شكل الحدث مناسبة للاحتفال بمشروع جيرسو وبالتعاون بين المتحف البريطاني والهيئة العامة للآثار والتراث ومتحف جيتي، وبتقاسمهم رؤية مشتركة يكون محورها حماية التراث الثقافي وبناء القدرات والبحوث المتطورة.
وعلّق الدكتور هارتفيغ فيشر مدير المتحف البريطاني قائلاً، «يمثّل التعاون بين كلٍّ من المتحف البريطاني والهيئة العامة للآثار والتراث العراقي ومتحف جيتي سبيلاً حيوياً جديداً لبناء مشاريع تعاونية في مجال التراث الثقافي على الصعيد الدولي. ولمن دواعي سرورنا أن نحتفل اليوم بالاكتشافات الحديثة التي جاءت ثمرةً لهذا التعاون. ونؤكّد التزام المتحف البريطاني الدائم بحماية التراث الثقافي العراقي ودعم البحوث المبتكرة وتدريب الجيل القادم من علماء الآثار العراقيين في جيرسو. في حين لا تزال معرفتنا بالعالم السومري محدودة اليوم، فإنَّ العمل في جيرسو واكتشاف القصر والمعبد المفقودين تنطويان على فرص كامنة هائلة لفهم هذه الحضارة المهمّة وتسليط الضوء على الماضي، لنستنير بها في المستقبل».
وعلّق الدكتور سيباستيان ري، أمين منطقة بلاد ما بين النهرين القديمة ومدير مشروع جيرسو: «أنّ الاكتشافات الجديدة في مشروع جيرسو تؤكّد النجاح الذي حقّقته شراكة المتحف البريطاني الأخيرة مع الهيئة العامة للآثار والتراث ومتحف جيتي. ويعدُّ جيرسو أحد أهم المواقع الأثرية في العالم التي لا يعرفها سوى قلّة من الناس. كما أنّه موقع فريد لتقديم برنامج تدريبي حول إنقاذ الآثار مصمّم للمختصين والطلاب العراقيين في مجال التراث في سياق مشروع بحثي متكامل. إنَّ أكثر من ثمانين عاماً من انقطاع العمل الميداني في الموقع كانت لها وطأتها أيضاً. ويعد مشروع جيرسو بدعم من متحف جيتي فرصة استثنائية لتأمين الحفاظ على هذا الموقع الاستثنائي على المدى الطويل».
وأشار كلٌّ من الدكتور تيموثي بوتس وماريا هامر- توتل وروبرت توتل، مدير معهد جيتي: إلى «يسعى متحف جيتي من خلال مقتنياته ومعارضه وأبحاثه ومنشوراته إلى تعزيز فهم التراث الفني والثقافي العالمي والحفاظ عليه. لقد كان العالم القديم محط تركيز خاص لبرامج المتحف في جيتي فيلا، ولذلك يسعدنا أن نتشارك مع المتحف البريطاني في مشروع جيرسو في العراق لما يوفّره البرنامج من دعم بالغ الأهمية للموقع الأثري الفريد من نوعه في جيرسو (تيلو الحديثة)، وذلك من خلال تدريب متخصصين عراقيين مكلّفين بتطوير علم آثار وسياحة مستدامين».
وفي هذا السياق، قدّم متحف جيتي، في يناير 2021، منحة سخية للمتحف البريطاني لتنفيذ مشروع جديد، وهو مشروع جيتي, وذلك على مدى فترة أولية مدّتها ثلاث سنوات. تمَّ تصميم مشروع جيرسو كمشروع متعدّد التخصّصات يشتمل على البحوث الأثرية والتدريب والحفظ وإدارة التراث في أراضي الموقع والمناطق المحيطة به، التي تشكّل جزءا من المشهد التاريخي الحيّ.
ويتضمّن النشاط برنامجاً شاملاً للبحث والتدريب الميداني عالي المستوى والحفظ وإدارة التراث. ويقوم بتدريب علماء الآثار العراقيين ومحافظي المواقع والطلاب على أساليب وتقنيات الحفر الانقاذية. ويشمل ذلك توثيق عمليات إعادة التنقيب والحفاظ على بعض أهم بقايا العراق القديم، التي عُرضت في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، التي تعرّضت لعمليات النهب المنتظمة منذ حروب الخليج وحتّى الآن، قام البرنامج بتدريب 27 مشاركًا خلال ثلاثة مواسم.
وجيتي هي منظمة فنّية عالمية رائدة ملتزمة بعرض التراث الفني والثقافي العالمي والحفاظ عليه وفهمه. وتعمل جيتي ومقرّها في لوس أنجلوس التي تضمّ مؤسسة جيتي ومعهد جيتي لحفظ التراث ومتحف جيتي ومعهد جيتي للبحوث بشكل تعاوني مع شركاء في جميع أنحاء العالم. وهي تقاسم الفن والمعرفة والموارد عبر الإنترنت على Getty.edu كما تستقبل عامّة الناس مجاناً في مركزها ومعهدها.