إفشاء وإخفاء

الصفحة الاخيرة 2023/02/28
...

حسن العاني

تتفق بلدان العالم جميعها، على أن (الخيانة العظمى) تعد أعلى الجرائم وأعظمها وأخطرها، ولذلك حرصت القوانين على إنزال أشد العقوبات بحق من تثبت عليه هذه الجريمة، بغض النظر عن التفاوت في نوع العقوبة، شنقاً أو رمياً بالرصاص أو إعداماً بالكرسي الكهربائي. وقد تكون بالسجن المؤبد أو أقل من ذلك بسنوات على وفق حجم الخيانة، أو طبيعة الدور الذي قام به الجاني، وهل جاء عن غفلة أو جهل أو سوء تقدير، أم هل جاء عن علمٍ وقصد وإرادة، وفي الحالات كلها فإن العقوبة يجب أن تكون قاسية بعيدة عن الرأفة، لأن مثل هذه الأحكام المتشددة لا يراد منها مرتكب الجريمة فقط، بل لكي تكون كذلك درساً لمن تسول له نفسه ارتكاب مثل هذا الفعل المخل بالشرف!.

والخيانة العظمى لها وجوه عدة، صحيح أن التخابر مع (العدو) مثلاً، أو إفشاء أسرار تتعلق بالوطن وقدراته العسكرية، أو نوع وحجم أسلحته، أو عدد تشكيلاته وأماكن انتشارها، أو كشف أسرار علمية أو اقتصادية.. الخ مما تتكتم الدولة عليه، ولا تريد الإفصاح عنه، لهذا السبب أو ذاك من متطلبات أمن البلاد. أقول إذا كان من الصحيح أن كشف أسرار الدولة للعدو يمثل أبرز وجوه الخيانة العظمى، فمن الصحيح كذلك أن قيام هذا المواطن أو ذاك باخفاء معلومات بحوزته عن حكومته، أو طمطمتها أو التستر عليها، هو نوع من أنواع الخيانة العظمى، ربما كان الأخطر من نوعه. وهكذا بمقاييس الخيانة ومعاييرها تتساوى الحالتان، أعني (افشاء) المعلومات أو (اخفاءها)، لأن التستر على أية معلومة – داخلية أو خارجية – وحجبها عن الجهات المعنية، يعرض البلاد إلى مخاطر قد يفوق تأثيرها تسريب المعلومات أو كشفها!. 

منذ عقدين من الزمن، وعشرات المئات من المحللين السياسيين في العراق، زيادة على أعداد كبيرة من أعضاء البرلمان وكبار المسؤولين، يعلن الواحد منهم بفخر ومباهاة، أنه يمتلك (أدلة ووثائق وأسراراً ومعلومات) لا يمتلكها غيره، ضد هذا الشخص أو تلك المؤسسة أو الوزارة، هي من الأهمية والحساسية بحيث تقيم الدنيا ولا تقعدها، وتقدم للأجهزة القضائية والأمنية والحكومية خدمة العمر التي لا تقدر بثمن. إذا كنا نتساءل لماذا لا يتولى هؤلاء الأفندية ابلاغ الجهات المعنية عما لديهم من أسرار ومعلومات سرية، فمن حقنا أن نسأل هذه المرة: أين هي السلطات القضائية، وأين هو الإدعاء العام، وأين الوزارات المعنية وأين هي الحكومة؟ ولماذا لا تتم محاسبة (أصحاب الأسرار وأدعياء المستمسكات والوثائق التي لا يمتلكها غيرهم؟) وأخيراً لماذا لا يتم إلقاء القبض عليهم فوراً وإحالتهم إلى المحاكم المختصة وإيداعهم السجن إذا ثبت أنهم لا يمتلكون أية وثائق أو أسرار، لأنهم تسببوا في إتعاب أعصابنا التي لا تحتمل مزيداً من المتاعب!.