العلم والفن في الصياغة التشريعيَّة

آراء 2023/03/01
...

  فارس حامد عبد الكريم


التشريع علم وفن واختصاص نادر يتطلب الدقة في صياغته لتعلقه بالحقوق والحريات العامة والدستور، فيوضع مشروع القانون غالباً من قبل لجنة من اساتذة القانون من مختلف الإختصاصات، وتعرض لمناقشة الجهات التنفيذية، قبل أن ترفع إلى السلطة التشريعية للتصويت عليها.

وهذا ما جرى عليه العمل منذ تأسيس الدولة العراقية، فكانت التشريعات مُحكمة الصياغة ونصوصها متناسقة، قبل أن تُداهمها الإستثناءات الصادرة عن قرار سياسي في الأنظمة الشمولية. 

ويذهب أغلب الفقه إلى أنه لا يجوز إشراك القضاة أو السلطات التنفيذية  في تشريع القوانين، مراعاة لمبدأ الفصل بين السلطات، فهم من يطبق القانون وينفذه لا من يشرعه وتسهيلاً لعملها قد يذهب بعيداً بتوسيع سلطاتهم مما يحد من حريات المواطنين.

ويذهب اتجاه فقهي قانوني تزعمُه الفقيه جيني، إلى ان كل قاعدة من قواعد القانون تنطوي من حيث مضمون وشكل صياغتها على عنصرين، أحدهما (عنصر العلم) وهو عنصر موضوعي، والآخر عنصر خارجي ذو طابع فني هو (عنصر الصياغة)، والعنصر الموضوعي يستهدف العدالة، ويتعلق بحاجات وتطلعات ذلك المجتمع.

ويقوم على جملة معطيات تُعبر في مضمونها عن الحقائق الاجتماعية والسياسية والتاريخية والمُثل السائدة في المجتمع، ومنها يستمد المشرّع مادته الأولية أو الجوهر الذي يصوغ منه قانونه، وهو بهذا المعنى، يتصل بالملائمة وحسن التدبير.

أما الصياغة فتمثل الجانب الفني للسياسة القانونية التي تُعنى بوضع أنسب أدوات التقنية التشريعية لاحتواء المعطيات الموضوعية، فقد تُضمن في إطار قاعدة قانونية جامدة أو مرنة أو معيار قانوني أو مبدأ قانوني، أو أن يحيل المشرّع الحُكم إلى قواعد العدالة والقانون الطبيعي.

ومعطيات الحياة عند جيني، أربعة أنواع:

المعطيات  الطبيعية الواقعية: وهي  الحقائق التي تتكون من ظروف الواقع والطبيعة المحيطة بالإنسان، كالتكوين الفسيولوجي والوسط الجغرافي والأحوال الأدبية والدينية والاقتصادية...، وهذه الحقائق لا تخلق القواعد القانونية بذاتها ولكنها تحدد نطاقها ابتداءً، فتنظيم  الزواج يُبنى على حقائق طبيعية كاختلاف التكوين الفسيولوجي والنفسي للرجل عن المرأة، فضلا عن نظرة المجتمع وموقف الدين، يقود إلى التسليم باختلاف المركز القانوني بينهما. 

المعطيات التاريخية: وتشمل ما تَكون من قواعد لتنظيم الحياة ثبتت عبر الزمن مما اكسبها صلابة واحتراماً جعلت منها تراثاً مكتسباً لا يُمكن إغفاله أو التحلل منه كلياً في تكوين القانون، وهذه المعطيات هي أساس كل إصلاح وبناء قانوني جديد، فهي نتيجة الخبرة المكتسبة عبر الزمن، ما يجعل لها حُجية مسلم بها، ليست بالمطلقة ولا بالدائمة، لكنها حُجية نسبية لا تصد عن التطور وإن تكن تـَعصم من الاندفاع أو 

التهور.

والمعطيات التاريخية، هي حقائق علمية في حقيقتها، فالتاريخ ليس سوى التجربة التي مرت بها الإنسانية، وبذلك تكون قادرة على منح القانون أساساً راسخاً وقوة وهَيبة.

فعبر التاريخ اكتسب حق الملكية احتراماً خاصاً، فنصت الدساتير على أن (حق الملكية مقدس) وهكذا الأمر بالنسبة لنظام  الزواج، الذي يخضع لرقابة دينية تسبغ عليه الصفة الشرعية كرابطة مقدسة، فمثل هذه النصوص تجد سندها في التطور التاريخي الذي خرجت منه.

فكان الزواج في المجتمعات البدائية يتم عن طريق خطف النساء من الجماعات الأخرى، وقد أدى هذا إلى استقرار فكرة الزواج من الأجنبيات، ولا تزال بعض مظاهر نظام اختطاف النساء قائمة شكلياً، ليومنا هذا حيث يقوم الزوج بدور المختطف للزوجة ليلة الزفاف، فيحملها بين ذراعيه ويذهب بها. 

المعطيـات العقلـية: وتشمل القواعد التي يستخلصها العقل من المعطيات السابقة بعد صقلها وتهذيبها، حيث يعمل القانون على ملائمة معطيات الواقع والطبيعة والتاريخ وموافقتها على ما يفرض من غاية للقانون. 

وتسهم المعطيات العقلية في النصيب الأكبر في تكوين جوهر القانون، ولكونها مبنية على العقل فإنها تمثل الجوهر الأساسي للقانون الطبيعي، اي قواعد السلوك التي يستخلصها العقل من طبيعة الانسان وحركة المجتمع، إلا أنَّ المعطيات العقلية تُظهر فقط ما تبديه طبيعة الانسان حتما ولا تتجاوزها إلى النزعات المثالية، فالعقل يوحي بضرورة أن يكون الزواج مستقراً حتى تنشأ أسرة متماسكة.

وللمعطيات العقلية صفة علمية بالمعنى المعبر عن كل نشاط عقلي يَنفذ إلى جوهر الأشياء بوسائله المُسَلم بها الخاصة بالمعرفة دون الوسائل المتنازع في قيمتها، فيتمكن من فرض قواعده فرضا جازماً.

المعطيات المثالية: وهذه المعطيات تعبر عن نزعات مثالية تنحو بالنظام القانوني نحو السمو والتقدم المستمر، ولا يقف معها القانون جامدا عن التطور، حتى لو كانت المعطيات الأخرى لا تؤيد هذا التطور.

ومن ذلك أن العقل يقضي ويسايره القانون أنه لا مسؤولية بدون خطأ يثبته المضرور للمطالبة بالتعويض عن الضرر، إلا أن ما رتبته هذه القاعدة من ظلم للعمال المُصابين أثناء العمل، حدت بالنزعة المثالية إلى التدخل وضمنت للعمال الحصول على تعويض على أساس مبدأ جديد هو، المسؤولية بدون خطأ (مبدأ تحمل التبعة)، فمن ترتب على نشاطه ضرراً للغير يُلزم بالتعويض، وهكذا استبعد ركن تاريخي جوهري من اركان المسؤولية هو الخطأ، خلافاً لمنطق العقل.

والمعطيات المثالية تتأتى  من قوى غير واضحة هي الإيمان والعاطفة والرحمة، وهي تحدد بطريقة غامضة ولكن مؤكدة، ما يوجد لدى الأفراد والجماعات من معتقدات وقيم مشتركة، ما يجعل لها صفة موضوعية كافية لتكملة نقص الحقائق العقلية والحد من شدتها وطغيانها، وإن تعسر اعطاؤها صفة علمية بحتة.

يتضح مما تقدم أن جوهر القانون إنما هو عمل عقلي، لأنه يصقل المعطيات الأخرى، ويحافظ على فكرة العدل التي تُعين على إقامة النظام والأمن في المجتمع.

 

* النائب الأسبق لرئيس هيئة النزاهة الاتحاديَّة.