هل يمكن للديون المنخفضة أن تصبح مشكلة للدول؟

اقتصادية 2019/04/12
...

عواصم/ متابعة
تمثل مستويات الديون المرتفعة مصدر قلق مستمر في الاتحاد الأوروبي، لكن سويسرا تواجه العكس تماماً لهذه المشكلة، ومن المفارقات أن النتيجة قد تتمثل في خسارة عائدات إضافية.
الدين المنخفض
تُعدُّ سويسرا استثناءً عند تحليل مستوى ديونها مقارنة بدول الاتحاد الأوروبي وغيرها، بحسب تحليل لمؤسسة “إي.إن.جي” للأبحاث.
وكان إجمالي الدين العام يعادل 41.8 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017، بحسب بيانات صندوق النقد الدولي، تتحمل الدولة الفيدرالية (الكونفيدرالية) 14.5 بالمئة منها أما باقي النسبة من قبل الكانتونات (التقسيمات الإدارية).
ويعد هذا المستوى من الديون العامة في سويسرا هو الأدنى منذ العام 1991 كما أنه أقل بكثير من متوسط مستوى الديون في الاتحاد الأوروبي (83.3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي) أو منطقة اليورو (89.1 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي).
وفي حين أن دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية كانت تميل إلى زيادة ديونها كنسبة إلى ناتجها المحلي الإجمالي في السنوات الأخيرة، إلا أن سويسرا شهدت انخفاضاً في ديونها كل عام.
ويتبع هذا الهبوط في الديون سلسلة متتالية في تسجيل فوائض بالموازنة بشكل سنوي في الأعوام الماضية.
وكان رصيد موازنة سويسرا يقع في النطاق الإيجابي (فائض في الموازنة) كل عام تقريباً منذ عام 2006 (باستثناء عامي 2013 و2014)، وبالنسبة للعام 2019؛ فإن موازنة الاتحاد الكونفيدرالي قد تؤدي إلى فائض يبلغ 1.3 مليار فرنك سويسري على الأقل.
والأمر الأكثر دهشة هو أن الكونفيدرالية السويسرية تنتهي كل عام بفائض في الموازنة أكبر من المتوقع في بداية العام ذاته.
وعلى سبيل المثال، بلغ فائض الاتحاد الكونفيدرالي السويسري 2.94 مليار فرنك خلال عام 2018؛ وهو أكثر بنحو 10 مرات من المتوقع؛ بفضل عوائد الضرائب التي تجاوزت التقديرات في حين ظل الإنفاق تحت السيطرة.
ومنذ عام 2007؛ فإن العام المالي في سويسرا انتهى بفائض دون توقعات الموازنة في السنة المالية 2014 فقط.
لكن مع ذلك؛ فإن الدين الخاص (وديون الأسر على وجه التحديد) أعلى من معظم دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
 
كبح الديون
السبب الرئيسي وراء مديونية سويسرا المنخفضة هو الآليّة التي أدخلها الاتحاد الكونفيدرالي لاستقرار الديون الفيدرالية: “كبح الديون”.
وتتمتع القاعدة التي تم تفعيلها في الدستور عام 2003 بعد حصولها على تأييد 85 بالمئة في 2001، بشرعية قوية كما أن الكانتونات أدخلت نماذج مماثلة.
والمبدأ: يجب ألا يتجاوز الإنفاق العام الإيرادات على مدار دورة اقتصادية كاملة، وتسمح هذه المعادلة بعجز خلال فترة الركود الاقتصادي تعوضه الفوائض خلال فترة التوسع.
ومع ذلك، تسبب تطبيق هذا النظام في خفض كبير بالديون بدلاً من مجرد تحقيق الاستقرار.
ويرجع ذلك إلى تطبيق القاعدة بصورة غير متماثلة كما أن الإنفاق يميل إلى المبالغة في التقدير كل عام في حين يتم تقليل تقديرات الإيرادات بشكل منهجي.
وكل عام تقريباً منذ بداية هذا النظام؛ فإن السلطات الفيدرالية أخطأت هدفها من خلال المبالغة في تقدير النفقات أو تقليل تقديرات الإيرادات.
 
أموال للاستدانة
توضح هذه الآليّة المدعومة إلى حد كبير من جانب سكان سويسرا، عقلية معينة تعد أن الدين هو أمر سيئ ومن الضروري تقليص الديون قدر الإمكان.
وكل عام، تستخدم الحكومة فائض الموازنة لتقليل الديون؛ الأمر الذي أدى إلى خفض تدريجي لديون السلطات العامة السويسرية.
ومع ذلك؛ فإنّ هذا الخفض في الديون يفرض تساؤلات رئيسة بشأن السياسات الاقتصادية، بالنظر إلى ظروف السوق الحالية.
وبالتأكيد فإنّ خفض الديون يدلّ على تقليص المعروض من السندات الحكومية السويسرية، على الرغم من أن الأسواق تعد الديون السويسرية بمثابة أصول آمنة للغاية، كما أن الطلب على هذه الأوراق المالية هائل، خاصةً عندما تكون الظروف مؤدية إلى “اللجوء للاستثمار الآمن”.
ونتيجة هذا الطلب القوي إلى جانب ضعف المعروض هي أن العائد على الديون السويسرية منخفض للغاية، ليكون الأدنى في العالم.
وتقوم الكونفيدرالية السويسرية بالاقتراض بعائد - 0.31 بالمئة على السندات التي يحل موعد سدادها بعد 10 سنوات، و - 0.62 بالمئة على تلك مستحقة السداد بعد 5 سنوات، أما الديون التي يحين موعد سدادها بعد 15 عاماً فإنّ عوائدها تبلغ - 0.02 بالمئة.
أما السندات ذات أجل الاستحقاق بعد 20 عاماً فأكثر فهي الوحيدة التي توفر عائداً إيجابياً، ومع هذه العوائد السالبة فإنّ الدولة السويسرية تتلقى أموالاً بالفعل من أجل اللجوء للاقتراض، المفارقة هنا: من خلال خفض ديونها فإنّ سويسرا تفتقد الحصول على إيرادات بالموازنة.
 
وقت التغيير
طبقاً لبعض الخبراء والأكاديميين؛ فإنّ استراتيجية خفض الديون في سويسرا مبالغ فيها ويجب أن تتوقف.
وعلى سبيل المثال، يعتقد الأستاذ فيليب باتشيتا (جامعة لوزان) أن سويسرا تشهد “لعنة الموردين الإقليميين للأصول الآمنة”.
وطبقاً لـ “باتشيتا”؛ فإنّه نظراً للنقص العالمي في الأصول الآمنة، يتم توجيه الطلب العالمي على الأصول السائلة إلى دول أكثر أماناً (بما في ذلك سويسرا كأول تفضيل) بوتيرة تتجاوز القدرة على توفير هذه الأصول.
وتشهد هذه الدول تدفقات رأسمالية داخلة فضلاً عن ضغوط تصاعدية على عملاتها. كما يعتقد -بناءً على ذلك- أن المديونية الإضافية يمكن أن تقلل من الضغط الصاعد على الفرنك السويسري وبالتبعية السياسة النقدية التيسيرية؛ وهو ما يؤيده صندوق النقد الدولي.
وتعد السياسة النقدية في سويسرا تيسيريّة للغاية في الوقت الحالي مع معدل الفائدة السالب ( - 0.75 بالمئة) إلى جانب التدخلات في سوق الصرف الأجنبي من أجل إضعاف العملة عند الحاجة.
 
استقرار الأسعار
على الرغم من السياسة التيسيريّة للغاية، إلّا أنّ استقرار الأسعار لا يزال بمثابة تحدٍّ رئيس للبنك الوطني السويسري، ويظل التضخم عند مستويات منخفضة للغاية، فضلاً عن أنّه لم يتم تجنّب مخاطر انكماش الأسعار (خلال السنوات العشر الأخيرة، كان معدل التضخم السنوي في النطاق السالب لمدة 6 أعوام).
وبالنظر إلى السياق الاقتصادي العالمي، من المعتقد أن البنك المركزي السويسري لن يكون قادراً على زيادة معدلات الفائدة قبل عدة سنوات، وبناءً على هذه الخلفية؛ فإن مجال المناورة للسياسة النقدية لمحاربة ركود اقتصادي محتمل في المستقبل محدود للغاية، ومن ثمّ، يبدو أن الدعوات من أجل سياسة مالية أقل تقييداً ومزيج من السياسة أكثر ملاءمة سوف تتزايد. وفي الوقت الحالي، مع ذلك، لم يصل النقاش إلى المستوى السياسي في سويسرا.
وطالما أن كل موازنة يتم مناقشتها بشكل جيد وأن الأحزاب لديها أولوياتها الخاصة بالإنفاق؛ فإنّ قاعدة كبح الديون لا يبدو أنّها محل تساؤل.
وبالتأكيد فإنّ كل فائض بالموازنة يستقبل التهنئة الذاتية للإدارة الجيدة للمالية العامة بدلاً من إلقاء نظرة حول كيف يمكن أن تكون الأمور أفضل في ظل نظام أفضل.
ومع ذلك، لا يزال هناك بعض الإشارات بأن المناقشة قد تكتسب زخماً في الأشهر والسنوات المقبلة، فعلى سبيل المثال، قررت وزارة المالية الفيدرالية النظر في المسألة.