ترجمة: حيّان الغربيّ
يرى كارلو روفيلي في كتابه «أناكسيماندر»، الصادر بالفرنسية في العام 2009 والمترجم مؤخراً إلى الإنكليزية، أن الفيلسوف موسوعيّ الثقافة قد برهن على الفائدة التي يجنيها المرء لدى تحديه للمعتمد المعرفي. جرت العادة أن يشغل أناكسيماندر المرتبة الثانية في قائمة الأشخاص الذين يعزى إليهم مجد تأسيس الحقول المعرفيَّة الفلسفيَّة، ويتصدر هذه القائمة معلمه طاليس بينما يأتي في المرتبة الثالثة تلميذه أنكسيمانس.
وقد ثبت الدور الحاسم الذي لعبه احتلال أناكسيماندر لهذه المرتبة بالتحديد، فعلى الرغم من أن هذا الفيلسوف متنوع الثقافة المولود نحو العام 610 قبل الميلاد كان يبدي إعجاباً كبيراً بمعلّمه، بيد أنه لم يخشَ المجاهرة بتحدّيه. ففي حين أن طاليس نسب أصل نشوء جميع الأشياء إلى الماء، إلا أن أناكسيماندر أشار إلى المبدأ الأول أو المادة الأولية “غير المحددة” أو “غير المحدودة” بوصفها أساساً لنشأة العالم.
يرى المؤلف، وهو عالم الفيزياء النظرية، أن إرادة التلميذ الموجهة نحو التقليل من شأن معلّمه تلعب دوراً رئيسياً في الممارسة العلميَّة، كما أنَّه يشير إلى غياب التبجيل الذي يكنّه التلميذ للمعلّم في حالة أناكسيماندر، ولكن من دون أن يتحوّل الأمر إلى الازدراء الذي يسود صفوف المرتدين عادةً. فعلى حدِّ تعبير روفيلي: “اكتشف أناكسيماندر طريقاً ثالثاً، وقد جاء العلم الحديث برمّته نتيجةً لاكتشاف ذلك الطريق الثالث”.
لا يقدّم الكاتب في مؤلَّفه هذا سيرةً ذاتيةً مباشرةً لأناكسيماندر، إذ لا يُعرف إلا القليل عن حياته كما أن مؤلفاته الأصليَّة الباقية حتى يومنا هذا نادرةٌ جداً. بدلاً من ذلك، يركّز الكتاب على الفكرة الثوريَّة التي اجترحها الرجل، ومفادها أنَّ الطريقة المثلى لكشف النقاب عن أسرار الطبيعة تكمن في وضع كلِّ شيء على طاولة المساءلة.
لقد بنى أناكسيماندر عالمه الخاص على أعمال الحكماء السابقين، فحقق في النظريات التي وضعوها وأدخل التصحيحات حيث اقتضت الحاجة، مبتكراً عمليةً أتاحت الفرصة للمعرفة لتنمو من جيلٍ إلى آخر مما مكّن البشريَّة من جني ثمارها.
لقد أفضى غياب التوقير إلى انعدام اليقين، الثمن الذي يرى روفيلي بأنّه جديرٌ بأن يُدفع “إذ لا تستند موثوقيَّة العلوم إلى اليقين وإنما إلى النقص الجذري فيه”. رفض أناكسيماندر وأتباعه التفسيرات الميثولوجية، مستبدلين الملاحظة، والرصد بالوحي، والعقل بالإيمان، والنقل. ونتيجةً لذلك، كما يجزم المؤلّف، وضع أناكسيماندر الحضارة على مسارٍ جديدٍ لا يجري فيه التقدّم بناءً على مراكمة الحقائق بقدر ما يجري استناداً إلى الكشف عن المجهول.
بالنسبة لطاليس، وأناكسيماندر، وأنكسيمانس، وجميع مواطني ميليتوس، المدينة الإغريقية على الساحل الغربي للأناضول، كان الشكّ حقّاً مكتسباً بالفطرة، فقد أدّى وجودها ما بين حضارتي مصر وبلاد الرافدين الأكثر عراقةً وتمتّع سكّانها بالفضول الطبيعي المعروف عن المجتمعات التجاريَّة الفتيَّة إلى تعرّضهم لمجموعةٍ متنوعةٍ من المعتقدات، مما مكّنهم من عقد المقارنات فيما بينها من دون الانتماء إلى أيٍّ منها والإبقاء عليها جميعاً موضع الشك. وعلى حدِّ وصف المؤلّف: “بالاختلاط تمضي الحضارة نحو الازدهار، أما العزلة فتقودها إلى التهلكة”.
يؤيّد روفيلي التنوّع على كلا الصعيدين الثقافي والأيديولوجي، فكما جنى مواطنو ميليتوس ثمار حكمة جيرانهم من الأجانب تستفيد المجتمعات الحديثة من التشجيع على التبادل الحر للأفكار، على حدّ رأيه. إذ لم تؤدِّ هذه الخاصية الإغريقية المتمثّلة باستيعاب مجموعةٍ متنوّعةٍ من التقاليد إلى ميلاد العلم وحسب، وإنما إلى نشأة الديمقراطية أيضاً كترجمةٍ لتشكيك أناكسيماندر في الطرق الفكريَّة الراسخة والمعتمدة إلى عالم السياسة.
ليس الموضوع الذي يتطرّق إليه المؤلّف بالغريب على أحد، وإن كان ينوّه إلى أن تبجيل قدامى المفكّرين الغربيين لم يعد صيحةً رائجةً هذه الأيام، ولكنّه يعتقد أن ما بدأه أناكسيماندر ورفاقه على صعيد استكشاف العالم واستقصائه أمرٌ جديرٌ بالذود عنه، فهو متحمّس للدفاع عن هذا التقليد المناوئ للتقليديين في مواجهة النسبويين، الذين يعتقدون بألا حقيقة توجد خارج زمانٍ وثقافةٍ محددين، والإطلاقيين، الذين يؤمنون بوجود حقيقةٍ واحدةٍ لا تمس، على حدٍّ سواء.
ولعلّنا نختتم بما يقوله روفيلي في كتابه هذا: “شأنها شأن الأرض، تسبح معرفتنا وسط العدم، ولكن طابعها المؤقت، والخواء المستتر، لا يفقدان الحياة معناها، وإنما يرفعان من قيمتها وهي النفيسة أصلاً”.
يدحض هذا الكتاب آراء أولئك الذين يميلون إلى التضحية بالإرث الحيوي لعلوم الغرب والتقدّم الذي جاءت به على مذبح الحساسيَّة الثقافيَّة أو التقهقر نحو الأمان الذي توفّره المعتقدات الميتافيزيقيَّة.