د. يحيى حسين زامل
يعد التاريخ وفق المعطيات الحاضرة في مجتمعاتنا أكبر فخ وقعنا فيه، وعلى الرغم من انتقال عدة مجتمعات من التاريخ إلى الجغرافيا، إلا أننا نأبى إلا أن يحاكمنا أو يحكمنا التاريخ، بوصفه منهجا يؤرخ للأحداث، لا سيّما تواريخ الملوك والأمراء والخلفاء والولاة والصراع والحروب.
لذلك جاءت "الأنثروبولوجيا التاريخية" بنقيض هذا الاهتمام، وأبدلت الحكام والملوك والحروب بحياة الناس العادية وتواريخهم وثقافتهم المؤسسة للحياة الاجتماعية اليومية.
واهتمت مدرسة الحوليات الفرنسية بأجيالها الثلاثة مسبقاً بأرخنة المجتمع وفق معالجات وأطر جديدة لتاريخ الإنسان، وكسر تلك الأطر والمعالجات التقليدية في الاتجاهات التاريخية السابقة، ليظهر للوجود تخصص معرفي جديد، أُطلق عليه "الأنثروبولوجيا التاريخية"، ليسلط الضوء على تاريخية الأحداث المؤسسة للبناء الاجتماعي والثقافي، والاهتمام بالتاريخ الذي يطوّر المجتمع ويسعى إلى تقديم حلول ناجعة من تجارب الإنسان في صراعه مع الطبيعة وتكيفه معها، أو تكييف الطبيعة وفق متطلبات الحياة الإنسانية. لذا يمكن أن نطلق لفظة تاريخ على كل ما يشكل محطة من محطات التقدم البشري والاجتماعي والثقافي، تاريخ اكتشاف اللغة، تاريخ الطباعة، تاريخ إنتاج العربة (السيارات)، تاريخ المعارف الإنسانية والعلمية، الفلسفة والاجتماع والفيزياء والكيمياء والذكاء الاصطناعي، الذي أحدث نقلة نوعية في الوعي البشري، أما تاريخ الملوك والأمراء والولاة والحروب فهذا ماضٍ، والحديث فيه لا يقدم أي جدوى في تقدم المجتمعات، بل ربما يثير الصراع والجدال من جديد، ويحرك جذوته. ولكن يبدو أننا اليوم أمام تاريخ لا يمكن الخلاص منه، تاريخ مفخخ ومكتوب بحبكة يجعل المرء معه، مكبلاً بقيود الماضي التي تعيق حركته، وتحدد خطواته، وكل خطوة يخطيها المرء أو المجتمع، يعيده التاريخ خطوات إلى الخلف، لا سيما من قبل جماعات تقدس الماضي ويطلقون عليه تاريخاً عنوة، ويجعلون منه شماعة يعلقون عليه أخطاءهم وآثامهم. إن التاريخ المعبأ من قبل وعاظ السلاطين، والمؤرخين الكسبة، ورجال الدين المزورين، وحكام أصرّوا إلا أن يعبأ التاريخ ولأجيال طويلة بصورة ما، ما هو إلا قنبلة موقوته تزرع الفرقة بين المجتمعات والثقافات والقوميات، يمكن إطلاقها متى ما شاءوا، لذلك دأب العديد من الكُتّاب أو الفضائيات أو خطباء موتورين إلى إعادة إنتاج هذا الماضي واستذكار حوادثه واسترجاع صوره المعكوسة أو المقلوبة أو المشككة، أو المدلسة بصورة مكرورة في مناسبات محددة ومعينة.
إن التاريخ المفخخ هو درب الآلام لهذه الأجيال التي لا تعرف من تاريخها إلا ما يروّج له في وسائل التواصل الاجتماعي وفضائيات التصعيد والتفكيك التي تشكل نقطة لانطلاق الوعي لأبناء المجتمع، الوعي الغائب أو المسترجع لإعادة إنتاجه من جديد، وما نسمع من هنا وهناك من إنتاج دراما لشخصيات ماضوية جدلية في المجتمع إلا إعادة إنتاج لهذا التاريخ المعبأ أو المفخخ منذ قرون.
وبدلاً من الاهتمام بالماضي بصورة عامة، والمفخخ بصورة خاصة ينبغي علينا الاهتمام بحاضرنا ومستقبلنا ومستقبل اجيالنا، التي تعاني أقسى المعاناة وهي توجه الفقر والبطالة والجهل والأمية، وبدلاً من التماهي مع تاريخ أكثره مزور أو غير حقيقي، ينبغي التماهي مع الحياة الاجتماعية والحقيقية في واقعها الحاضر والمعاصر.