السدود والاستفادة من هبة الماء

ريبورتاج 2023/03/23
...

   نافع الناجي

في الأعوام الخمسة الأخيرة ومع كل موسم صيف يسبقه شح في الأمطار، يعاني العراق من مشكلات إروائية وزراعية خطيرة نتيجة اعتماده على أنهار تنبع من دول جوار، لا تراعي في الغالب حصص وحاجات العراق وسكانه.

لكن مع هطول أمطار غزيرة على البلاد خلال موسم الشتاء الحالي، تجدد سعي وزارة الموارد المائية إلى جمع نحو ملياري متر مكعب من مياه تلك الأمطار والسيول سنوياً من خلال بناء سدود حصاد المياه في الأودية الصخرية التي تشهد سيولا بنسب جيدة.

دراسات رصينة

يمتلك العراق مجموعة من السدود لكن أغلبها تقادم وعفا عليه الزمن، وهناك تسعة عشر سداً شيّدت منذ أواخر ستينيات القرن الماضي في عموم البلاد، يضاف إليها عشرة أخرى قيد الإنجاز ومنها سدود بادوش ومكحول وبخمة وغيرها، ومع مواسم الشحّ والجفاف في بلاد الرافدين، بات واضحاً أنه لم تتحقق الاستفادة القصوى من جميع هذه السدود بشكلٍ صحيح، كما أكد مختصون لـ (الصباح)، والذين دعوا إلى التفكير الجدي للاستفادة من تقنية (حصاد المياه) على حد قولهم. 

المهندس الزراعي عامر جبار عودة قال: «يجب علينا أن نفكر جدياً من الآن للانتفاع من تقنية حصاد المياه من خلال إنشاء السدود الصحراوية، بالإضافة إلى إكمال تلك المقترحة التي سبق وأن قامت الحكومة بإعداد دراساتٍ حولها ومن ضمنها سد مكحول وبخمة في إقليم كردستان وبقية السدود الأخرى». 

من جهتهم قدّم باحثون في جامعة المثنى العديد من الأطاريح والأبحاث والمقترحات الخاصة بتطوير السدود والاستفادة من مياهها وطرق ترشيدها، داعين وزارة الموارد المائية إلى الاستفادة من مياه نهري دجلة والفرات واستغلالهما بالشكل الصحيح وعدم هدر مياههما، ووضع حلول جذرية وفعلية لاستغلال المياه بشكلٍ أمثل، مثل بناء سدود تلبي حاجة العراق من مياه الشرب وتلك المخصصة للزراعة، وتوفير مصادر تستخدم لمحطات الطاقة الحرارية وكذلك الاستخدامات الصناعية المختلفة. 


هدر الطاقة

يقول طالب الدكتوراه حسنين مالك: «إن العراق اليوم بحاجةٍ ماسة إلى مثل تلك السدود، ولا بد من توجه الجهات المعنية كوزارة الموارد المائية وتشكيلاتها إلى كري الأنهر والاستفادة من المياه وعدم هدرها». 

وأضاف: من المهم التوسع ببناء السدود إن وجدت التخصيصات المالية وصيانة الموجود منها، فضلاً عن استثمار الحصة المائية من نهري دجلة والفرات، لا سيما ونحن نشهد في كل عام، مشكلات الجفاف وشح المياه في فصل الصيف.

من جهته وجه المهندس علي حسين الريشاوي، انتقادات شديدة للخطط التي وصفها بـ (الكلاسيكية) التي تنظمها وزارتا الزراعة والموارد المائية منذ عقدين ولغاية يومنا هذا، وعدّ البرامج التنموية «مضيعة للوقت وهدراً للطاقة والثروات»، موضحاً «إننا لم نشهد بناء أي سدود ذات قيمة أو مشاريع إرواء واضحة المعالم، يمكنها أن تؤمّن الخزين المائي الكافي في أوقات الأزمات، وما دمنا هكذا سنظل تحت رحمة تصرفات دول الجوار وخصوصاً تركيا».

وطالب الريشاوي في حديثه بتجهيز منظومات ري حديثة وبتقنية عالية لترشيد استهلاك المياه، الأمر الذي تعتمد عليه أغلب دول العالم للحد من الشحّ الذي قد تعاني منه وتقنينها بالشكل الأمثل، وتجهيز المزارعين بمضخات الري المحورية والتوسع بحفر الآبار بأنواعها في البادية وتنصيب منظومات طاقة شمسية للتخلص من مشكلة الوقود والكهرباء. 


تقنيات حديثة

تعمل وزارة الموارد المائية على جمع ملياري متر مكعب من المياه سنوياً من الأمطار والسيول، من خلال بناء سدود حصاد المياه في الأودية الصخرية التي تشهد سنوياً سيولاً بنسبٍ جيدة. 

المدير العام لهيئة السدود والخزانات بوزارة الموارد المائية علي راضي قال بهذا الصدد: إن «إحدى الوسائل المهمة لمواجهة الجفاف المائي، وضمن الدراسات الستراتيجية هو التوسع في إنشاء سدود حصاد المياه، لا سيما في المناطق الغنية بهذه الموارد، بغية الاستفادة القصوى من كل الكميات المتحققة سواء من الأمطار أو السيول الواردة خلال الوديان والمنخفضات بشكلٍ عام».

وأضاف راضي في تصريحٍ لـ (الصباح)، أن «هذه السدود الصغيرة لها أهمية كبيرة في استيطان الكثير من القرى والتوسع في إغناء الناتج الزراعي عبر الاستفادة من هذه المياه، باستخدام التقنيات الحديثة فضلاً عن تغذية نظيرتها الجوفية ومن ثم استغلالها في كثير من المواقع التي يصعب وصول المياه السطحية لها»، لافتاً إلى «أهميتها أيضاً في مناطق الأهوار التي عانت من شح مائي كبير أدى إلى انحسار معدات الاغمار خلال السنوات الأخيرة».

وشدد راضي على «سعي الوزارة إلى تأمين المياه لتلك المناطق وتعزيزها، وبالوقت ذاته أيضاً السعي إلى تأمين خزين يديم عمل خطط الوزارة ويلبي جميع المتطلبات».


خبرات رائدة

مدير مركز دراسات الموارد المائية في المنطقة الشمالية المهندس بكر رحيم فرج قال لـ (الصباح): «بلا شك، أن تأثير التغييرات المناخية على الوضع المائي في العراق كبير جداً، وزاد الأمر سوءاً تقليل الإطلاقات المائية من دول الجوار باتجاه الأنهر (الفرات، دجلة، الزاب، سيروان وديالى)، فضلاً عن ضعف سقوط الأمطار، والعوامل الثلاثة أدت إلى حدوث جفاف كبير، تأثرت به كل مناطق العراق».

من جهته قال مدير سد حديثة الخبير طارق بتّال في تصريح لـ (الصباح): إن «وزارة الموارد المائية تعمل على التفكير بإيجاد حلول آنية سريعة، وفي الوقت نفسه ستراتيجية طويلة المدى لغرض تجاوز الشح المائي وإيجاد نوع من المواكبة وتقليل التأثير المناخي، لا سيما أن البلد يمتلك خيرة الكوادر من مهندسين وجيولوجيين وفنيين بخبرةٍ رائدة ومميزة في مجال تصميم وتنفيذ وتشغيل السدود الصغيرة التي أضحت مهمة جداً في هذه الفترة».


ندوات حواريَّة

يعد التوسع بإنشاء سدود حصاد المياه، محوراً مهماً جداً يجعل العراق مسيطراً على كل قطرة، من الممكن أن ترد إلى داخل البلاد من خلال الأمطار أو السيول، فهنالك بعض الوديان والمنخفضات ترد إليها إيرادات لا بأس بها وجيدة يمكن الاستفادة منها مع ظروف هذا الجفاف المائي. 

الهيئة العامة للسدود والخزانات أكدت في ندوة حوارية أقامتها مؤخراً وحضرت (الصباح) جانباً منها، أن الهلال الممتد من كردستان مروراً ببادية الجزيرة وحتى البصرة، يحتوي على أكثر من عشرين سداً لجمع مياه الأمطار والسيول، في حين أن المرحلة المقبلة ستشهد إنشاء أكثر من خمسة سدود وتحديد ثمانية مواقع أخرى لدراستها وإنشاء مجموعة صغيرة أو ما يسمى بسدود حصاد المياه، لمعالجة مشكلة الجفاف وشح الموارد، حتى وإن كان على المدى القصير في الصحراء الغربية ومنطقة بادية الرطبة في محافظة الأنبار، وإنشاء سد واحد في بادية النجف وآخر في بادية السماوة ونحو ثلاثة سدود في مناطق محافظة كركوك، فضلاً عن عددٍ من السدود الصغيرة لحصاد المياه في المنطقة الشمالية، ما سيسهم في تغذية المياه الجوفية وتعزيز خزين المخصصة للشرب، فضلاً عن الإفادة منها في الزراعة والرعي والاستيطان البشري بحسب السعة الخزنية وكمية السيول الواردة. 


أولويات التعزيز 

بعد هطول كميات وفيرة من الأمطار على معظم محافظات البلاد والتي جاءت بعد مواسم شحيحة خلال الأعوام الخمسة الماضية، وبمعدلات مطرية مختلفة بعضها أنعش الزراعات الديمية، شهدت البلاد أيضاً بعض السيول التي وردت في جزءٍ منها عبر الجانب الغربي والقسم الآخر عند مقدمة سد حمرين في محافظة ديالى عبر الجانب الشرقي، تباشير جعلت وزارتي الزراعة والموارد المائية تدعواننا أن نتفاءل خلال الفترة المقبلة، وتعزيز خططهما لهذا الموسم بشرط استيعاب السيول والأمطار وتوجيهها باتجاهين رئيسين حسب مواقع سقوط الأمطار ومناطق ورود هذه السيول، إذ منحت الأولوية الأولى بالتأكيد نحو تأمين المياه للمناطق التي عانت وحرمت كثيراً في فترات الجفاف الماضية وخصوصاً مناطق الأهوار وبعض المحافظات في جنوب العراق، وكذلك تأمين واستكمال الرية الأولى الزراعية ودفع اللسان الملحي في شط

العرب. 

كما تتم الاستفادة من كميات الأمطار المتساقطة والسيول في مناطق أعالي السدود أو الخزانات، في تعزيز الخزين المائي، وهذا الأمر يقع ضمن أولويات الوزارة وضمن ما تقوم به الطواقم المنتشرة في عموم المحافظات. 

ومع هكذا أجواء تجري عملية تخفيف الإطلاقات من السدود والخزانات المائية، لكون المتطلبات أصبحت أقل منافسة على المياه السطحية، وهذا الإجراء مهم جداً لتعزيز الخزين المائي والاستفادة منه للمرحلة المقبلة، بحسب المختصين.