العذراء الثائرة.. سيمون فايل

منصة 2023/03/27
...

  د. فارس عزيز المدرس

مِن العسير فهمُ الأطرِ التي تحكم طبيعةَ المرأة؛ ما لم يجرِ كسرُ الانزياح القِيمي الذي انصبَّ عليها، بفعل التكرارِ والتلقين اللذين رسخا الدونيَّةَ المفروضة عليها قسراً؛ فوقع في فخها الكثيرون عِبر القرون؛ بما في ذلك الكثيرُ من النساء.

وصْمةُ الدونيَّة قديمة؛ ولها حضورٌ واسعٌ في كثيرٍ مِن الأديان والفلسفاتِ القديمة، والنظم الحديثة التي يُمرّرُ بعضُها هذه الدونيَّة بالإجراء؛ إنْ لم يكن بالادعاء. وإذا توهّم البعضُ فعَزى ترسيخَ هذه الدونيَّة إلى العصورِ الغابرةِ فحسبُ؛ فله أنْ يعودَ إلى أدبياتِ عصرِ الأنوار وسيجدُ أنَّ التأصيلَ لهذه الدونيَّةِ مستمرٌ وفاعلٌ. 

لو تابعنا بذورَ الفكرة لدى كانط مثلاً لرأينا كيف تجنّبَ الاعترافَ بدونيَّة المرأة؛ لكنّه لم يفلح تماماً؛ إذ عدّ النبلَ من فضائل الرجل، وللمرأة (فضيلةٌ جميلة) لكنها لا ترقى إلى فضائل الرجل. يقول: مِن الصعب أنْ أصدقَ أنَّ جنسَ المرأة قادرٌ على المبادئ. ولا يمكن تطعيمُ الفضيلة إلا بالمبادئ. وهذا يتقتضي أنّ النساءَ أقلَّ مِن وكلاءٍ أخلاقيين. ولا أحدَ حتى كانط نفسُه فسَّرَ معنى الفضيلةِ الجميلة؛ سوى ما عُرفَ لاحقاً بالجنس اللطيف، أو الظرافة والجمال الجسدي؛ بوصفه معياراً للأنوثة.

 أمّا مونتسكيو فنظر إلى الموضوع مِن زاوية أنّ الرجلَ يتميّز عن المرأةِ بالعقل والقوة، وخصَّ المرأةَ بسحرِ الجاذبيّة وجعله مِن صنع الطبيعة، في حين جعل روسّو التربية الخلقيّة والجسديّة مِن نصيب الذكر؛ بوصفه العنصرَ المتميّز بالذكاء. بينما يقرّر هيجل أنَّ النساءَ مهما بلغنَ مِن التعليم يبقين قاصراتٍ، وهذا القصورٌ يجعلهنَّ غيرَ نافعاتٍ في العلم والفكر. 

ولكي لا أطيلُ في تفصيل التناقضات التي رافقت الاشتغال القيْمي والمعرفي للإنسان، وهو حديثٌ ذو شجون ومزالقُ؛ اكتفيتُ بالإشارةِ إلى القاعدة التلقينيّة التي رافقتْ واقع النساءِ منذ أزلٍ بعيد. وفي هذا المقالِ لا أدّعي أنَّ سيمون فايل Simone Weil تمثّل الفرادةَ في كسرِ عقدةِ الدونيّةِ المتعلّقة بقدرة المرأةِ على التفكير والتأمل، ولكنها أنموذجٌ مكافحٌ عنيدٌ؛ بمعزلٍ عن قبول أفكارِها أو ردّها. فضلاً عن فائدةِ الإطلاع على الأنموذج الحقيقي لتحرّر المرأة بعيداً عن الروح الشعاريَّة.

ولِدت فايل عام 1909، وانتقلت إلى باريس بعد ضمِّ ألمانيا الألزاس واللورين. 

وعلى الرغم من أنَّها كانت في شبابها جذابةً وعاطفيَّةً؛ لكنها تجنّبتْ الاهتمامَ الجسدي، وكانت تخفي جمالَها بتبنّيها مظهراً رجوليّاً، وبالكاد تستخدم المكياج؛ كي تكسرَ أحاديةَ المعرّف الجسدي للمرأة.

ووفقاً لكاتِبةِ سيرتها (سيمون بيتريمنت) قرّرتْ فايل منذ المراهقة تحجيمَ الصفات الشكليّة، والتضحية بفرصِ الحب، مِن أجلِ متابعة مهنتِها في تحسين الظروفِ الاجتماعيّة للعمال والمحرومين والدفاع عن الحقيقة. وعندما كان عمرها ثماني سنوات رفضت تناول السكّر؛ تضامناً مع القوات المتحصّنة على الجبهة الغربيَّة. 

سافرت مضطرةً إلى أمريكا نزولاً عند رغبةِ والديها؛ بعد اقتحام النازي، ثم استقرّت في لندن على أملِ الرجوعِ والاشتراك في المقاومة، إلا أنّها لم تحققْ أملَها في الالتحاق بصفوف المقاومة، واقتصرت على العمل المكتبي في لندن، وهذا منحها وقتاً لكتابةِ أحدِ أشهر أعمالها: (الحاجة إلى الجذور).

تم إلغاء تجنيد ويل في المقاومة نظراً لحالتها الصحيَّة؛ إذ تمَّ تشخيص إصابتها بالسل. ومع ذلك رفضت معاملة خاصة؛ بسبب المثاليّة التي تحملها. 

وقصَرت طعامَها على ما اعتقدت أنّ سكان فرنسا المحتلة يأكلونه. 

ماتت فايل عام 1943 بسببِ قصور القلب عن عمر يناهز 34 عاماً. 

ويرى البعض أنّ مجاعةَ فايل الذاتية حدثت بعد دراستها شوبنهاور؛ في فصوله عن الزهد والخلاص، كطريقةٍ لإنكار الذات. لكن سيمون بيتريمنت تؤكّد أنّ الحالةَ الصحيةَ السيئة التي عانت منها فايل هي التي جعلتها غيرَ قادرةٍ على تناولِ الطعام.


حياتها الفكريَّة

كانت فايل مبكرةَ النضج، أتقنتْ اليونانية القديمة وهي بعمر الثانية عشرة. وتعلّمت السنسكريتيّة كي تتمكن مِن قراءة تعاليم الغيتا، إذ كان اهتمامها بالديانات الأخرى عالميّاً، وحاولت فهم كلَّ تقليدٍ ديني بوصفه تعبيراً عن الحكمة المتعالية. درست في مدرسة هنري الرابع تحت وصاية معلمها إميل شارتييه "آلان". وفي عام 1928 حصلت على المركز الأول في امتحان شهادة الفلسفة. بينما احتلتْ سيمون دي بوفوار المركز الثاني. وخلال هذه السنوات، جذبت الاهتمامَ بآرائها. وكانت تسمى "العذراء الحمراء". حصلت على الماجستير عام 1931 عن أطروحتها "العلمُ والإدراك لدى ديكارت". 


نشاطها السياسي

عملت سيمون فايل أستاذةً في الفلسفة، إلا أنها تخلّتْ عن وظيفتِها، بعد أنْ قرّرتْ أنْ تصبحَ عاملةً في المصانع الفرنسية وأبدتْ تعاطفاً مع الفقراء والبسطاء الذين اقتسمت معهم كلّ ما تملك. 

وكانت تلتقي بالعاطلين والعمال، وتمنحهم ثقافةً عامةً في الفكر السياسي، فيما يشبه تعليماً شعبيّاً، تبسط فيه إشكالات المجتمع الغربي وتستنهض الهِمم. 

وانخرطت في الحركة العمالية وكتبت مقالاتٍ سياسية وخرجت في مظاهرات، ودافعت عن حقوق العمال. مع أنها لم تنضمّ إلى الشيوعية، وكانت مِن أوائل الذين حدّدوا شكلاً جديداً مِن أشكال الاضطهاد لم يتوقّعه ماركس حتى، حيث يمكن للبيروقراطيين النخبويين أنْ يجعلوا الحياةَ بائسةً للناس العاديين؛ كما يفعل الرأسماليون تماماً. 

وعندما عادت إلى فرنسا أمضت وقتَها في مساعدةِ الألمان على الفرار مِن النازي. فنشرت مقالاتٍ حول القضايا الاجتماعية والاقتصادية، بما في ذلك "الاضطهاد والحرية". وقدّمت وصفاً لكلٍّ مِن الرأسمالية والاشتراكية. مما اضطر تروتسكي نفسَه إلى الردّ عليها؛ ومع ذلك تأثّر ببعض أفكارها.


نزعة التصوف

 عندما كانت مراهقة تمتّعت بنظرة دينيّة مستوحاة من طفولتها، لا سيما فكرة حبِّ الجار. وانجذبت إلى الإيمان عندما مرّتْ بأول تجربة دينيّة؛ فأصبحت كتاباتها أكثر صوفيَّة؛ مع الاحتفاظ بتركيزها على القضايا الاجتماعية والسياسية. لكنها رفضت أنْ تتعمّد؛ مُفضِّلةً البقاءَ خارجاً، بسبب "حب الأشياء التي تقع خارج المسيحية". وفي السنوات الأخيرة مِن حياتها كانت أقربُ إلى الفلسفةِ الصوفيَّة منها إلى الماركسية، ولنا في ذلك شهادةٌ مِن رسالةٍ لتروتسكي إلى فيكتور سيرج؛ يدعوه إلى قطع العلاقة بفايل؛ لأنها لم تعدْ متحمسةً للفكر الثوري، ولا مناصرة للبروليتاريا، كما وصفها تروتسكي؛ ذلك النبيُّ الأعزل بتعبير إسحاق دويتشر. 

كانت فايل مهتمةً بالتقاليد الدينية الأخرى، لا سيما اليونانية والمصرية، والهندوسية. وتعتقد أنّ كلَّ هذه التقاليد تحتوي على عناصرَ من الوحي، ومع ذلك، عارضت التوفيقَ بين المعتقدات الدينيّة، لأنَّ هذا يؤدي إلى طمس خصوصيَّةَ التقاليد الفرديَّة، ويقيّد الحريات. 


 غيابٌ وبلاء

الغيابُ هو الصورة الأساسيَّة لميتافيزيقيا فايل؛ فضلاً عن علم الثيودوسي (Theodicy) (علم نظرية العدالة الإلهيَّة، وهو فرع من الثيولوجيا يهتم بمشكلة الشرّ، والإجابة عن سؤال: لماذا يسمح الله للخير ليظهر بمظهر الشر(. ووفقاً لـ فايل فالبشرُ يولدون في وضعٍ ملعون، ليس بسبب الخطيئة الأصلية، بل لطبيعتهم البشريّة. فإذا تصوّرنا الخلقَ منطوياً على الشرِّ فلا توجد مشكلةٌ في دخول الشرِّ إلى عالم كامل. ولا يشكل وجود الشر تحديداً لقدرة الله؛ فالشرُّ موجودٌ ليس لأنَّ الله لا يستطيع أنْ يخلقَ عالماً كاملا، بل لأن فِعلَ "الخلق" في جوهره يعني استحالةَ الكمال لغيره.

وهذا التفسير لجوهر الشرِّ لا يعني أنَّ البشرَ مَحكومٌ عليهم بالشر، بل لأنّ الشرَ وما يترتّب عليه مِن بلاء يدفع البشرَ نحو الله، تقول: "البلاءُ الذي يجتاح الإنسانَ؛ لا يخلق البؤسَ البشري، بل يكشفه فقط". 

كتبت حنا آرنت عن المحبة في أطروحتها عن أوغسطين (1929)، لكنها لم تبلغْ ما بلغته فايل مِن تسامٍ يصير فيه الشرُّ والبلاء قدراً لا مَفرّ منه. تقول: "أعتقد أنَّ أصل الشرِّ يتمثّل لدى من أصابهم البلاء بيولوجيّاً خاصة، لكن البلاء حلمُ يقظة. والبشرُ يستسلمون للشر عن غير وعي، ما داموا لا يمكنهم العيش وحيدين في العالم؛ لأنَّ هذا الأخير هو جسرٌ للعبور، و" ليس ضروريّاً أنْ يقولَ المرءُ نعم للشر. ولكنَّ الخيرَ لا يشغل النفسَ إلَّا إذا قالت له: نعم"، وهكذا ﻓ "أقصى ما يمكن أنْ يفعلَه إنسانٌ أنْ يحافظ في على سلامةِ ملَكةِ قولِ: نعم للخير".

 أمّا دعوةُ حنا آرنت للضحايا الذين قادهم بضعُ مئات مِن النازيين إلى المحرقة، فهو قول: «لا» للشر، و "لماذا لا يستطيعون التمرد؟"، وذلك هو الروح الثأري الذي أحرق حنّا؛ وهي تبحث عن أصلِ الشَّر، فكلُّ المآسي "التي يمكن أنْ نتخيّلها تعود إلى مأساةٍ واحدة: وهو ألّا نقولَ «نعم» للخير؛ و «لا» للشر".

لم تعمِّرْ العذراء الحمراء (كما نعتها أستاذها)، سوى أربعة وثلاثين عاماً، وكتبتْ فيها ما يُعادل خمساً وعشرين كتاباً، تشهد على أنّها شخصية متجذِّرة؛ لا مجرّد مُدرِّسَةٍ تؤدي وظيفة، بل فيلسوفة ملتزِمة بقضايا المضطهَدين الذين كافحت مِن أجلهم، وكل هذا أتاحَ لها أنْ تضعَ أسساً لتربيةٍ تقوم على التمرُّدِ ضدّ الجاهز والمألوف. 

وبهذا أثبتت قدرةِ المرأة على مغادرةِ ما يحطُّ من قيمتها وقابلياتها السامية في الحياة؛ لتقتحمَ أعقدَ مراتبِ الفكر، وترفض أنْ يكون المعرّفَ الجسدي عنوانَ الأنوثة؛ على حساب الكينونة والحضور في قلبِ الحياة. مع أنَّها كانت فائقةُ الجمالِ متألقةُ المشاعر.