د. أثير ناظم الجاسور
منذ العام 1989 ولغاية مدة ليست بالبعيدة، والعالم محكوم بسلسلة من الإجراءات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن أعلنت انتصارها بالحرب الباردة والإجهاز على العدو الأول المتمثل بالاتحاد السوفيتي وكتلته الشيوعية، من ثم تمَّ تتويجها القطب الأوحد في هذا العالم الكبير لا يعلو قرارها وهيمنتها أية قوة في العالم، الذي بات في تلك المرحلة أسير الفوضى والصراعات التي خلفتها نهاية هذه الحرب التي قسمت العالم بين العدو والصديق، مرحلة خنقت العالم خوفاً، أنهت التقسيم الحاصل آنذاك بين الشرق والغرب، مما راح اكثر الدارسين والباحثين تفاؤلاً من خلال التبشير بمرحلة جديدة قادمة من التوازن والاستقرار، بعد أن قررت الجهات الفاعلة في ذلك الصراع من ترتيب أوراق النظام، تم تدشين قوة القطب الأوحد من خلال حرب الخليج الثانية 1990 باحتلال العراق للكويت وصمت العالم، جراء هذه الحرب وما تلاها من تداعيات على العراق والمنطقة، فضلاً عن التمدد وعمليات بسط النفوذ من خلال القوة العظمى، مرحلة جديدة قادت العالم إلى دراسة معايير جديدة لإدارة النظام الدولي، الذي بات متصلباً في قراراته بحكم التحالفات والمستويات التي باتت تعمل على أساسها الدول وفق تعاملاتها مع القوة العظمى الحاكمة.
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 دخل النظام العالمي مستويات جديدة من التعامل، من خلال إعادة قراءات جديدة ضمن التفكير الستراتيجي الأمريكي، الذي عمل على تحديد فكرة الهيمنة وإعادة بسط السيطرة والنفوذ والقضاء على الأعداء وتحجيم الخصوم والمنافسين، وشعار من ليس معنا فهو ضدنا، بات أيقونة التعامل مع الدول، من خلاله تم تقسيم الدول وفق التعاون والاعتراض، فبين دول صديقة وأخرى حليفة، هناك دول شر مارقة تهدد الأمن والسلم الدوليين، لتبدأ مرحلة أخرى من عمر النظام وتوجهات تحكم عمل الجهات الفاعلة في السياسة الدولية، سواء من حيث النظرية والتنظير لمفاهيم تعمل على تعزيز الهيمنة الأمريكية، أو من خلال التطبيق الذي أنتج احتلال كل من أفغانستان والعراق، لم يكن للقوة العظمى أية منافس على المسرح العالمي سوى بعض الاعتراضات التي لا تذكر، بعد أن هيمنت ستراتيجية الحرب على الإرهاب على تفكير العالم الذي بات يبحث في ماهية هذا الخطر وسُبل معالجته.
عالم ما بعد سبتمبر وما صاحبه من تحولات جوهرية في تركيبة الكثير من الأنظمة في مناطق مختلفة، أهمها المنطقة العربية والأنظمة الحليفة، فضلاً عن الأنظمة الكبرى التي تحاول في كل مرحلة أن تثبت وجودها لتكون رقماً مهماً فيه جعلت منه (النظام العالمي) أكثر تعقيداً من خلا السياسات المتبعة سواء في الشرق الأوسط أو جنوب شرق أسيا أو أوروبا الحليفة الخ...، استمر الحال حتى بدا الحديث عن قوى صاعدة تعمل على تعزيز مكانتها في هذا العالم وعدم السماح من أن تكون رقماً هامشياً يعمل على أن يكون واحداً من المتغيرات السياسية للقطب الواحد، لا بل باتت هذه القوى تمانع من استمرار هيمنة هذا القطب، خصوصاً بعد جائحة كورونا وما أفرزته من تداعيات على الدول بعد أن عملت هذه الجائحة على تبيان قدرات الدول من التعامل منفردة مع هكذا حالات، وأنهت فكرة الاعتماد المتبادل وعززت من فكرة سيطرة الدولة على مقدراتها وإجراءاتها لتكون على قدر كافٍ من المواجهة، بعد.
كل هذا لم يمنع من تحقيق الستراتيجيات والسير وفق تحقيق المصالح الذي ساهم في إظهار القدرات التي تتمتع بها قوى أخرى غير الولايات المتحدة مما عمل على إعادة التفكير في مصير العالم من حيث تخليصه من هذا العبث والفوضى، لا سيما أن العالم يشهد اليوم وجود قوى تحاول أن تعيد فكرة الأقطاب المتعددة، وعدم السماح لأي قوة كانت من أن تتحكم في مناطقها وتعمل على تهميشها، فالحرب الأوكرانية وبالرغم من شدتها إلا أنها ستظهر قوة الطرف الآخر من الكرة الأرضية، وتحديداً القسم الشرقي منها على اعتبار أن القسم الغربي تمت السيطرة عليه، لكن هذا لا يمنع من أن القسم الأخير سيكون أكثر قسوة على القوة العظمى في القادم، بالمحصلة العالم مقبل على تعددية قطبية مختلفة هذه المرة عن تلك التي ذُكرت في كتب التاريخ، والتي شهدناها طيلة السنوات السابقة، هنالك قطبيات متخصصة لكل قطب هيمنته على جزء من العمل في هذا النظام، ومن المتوقع أن تتقاسم زعامة هذه الأقطاب كل من أمريكا والصين وروسيا بين قطب سياسي – دبلوماسي وقطب اقتصادي وقطب عسكري، والرؤية المحددة لهذه الأقطاب تعمل على تفكيك هذا النظام وتشكيل نظام جديد تتم ممارسة الإجراءات فيه بشكل تشاركي حتى في عملية التقسيم والتوزيع الذي تتعرض له مناطق العالم، بالتالي فالعالم مقبل على تحولات جوهرية في فكرة تعددية الأقطاب، التي من الممكن أن نسميه الانفجار
القطبي.