تحوّلات أدونيس الجديدة.. إطلاقيَّة المفاضلة الشفاهيَّة

ثقافة 2023/03/29
...

 ريسان الخزعلي


(1)

في مقدمة أعماله الشعرية الكاملة – طبعة دار المدى عام 1969، تراجع الشاعر والمفكّر الكبير أدونيس عن التسمية (قصيدة نثر) وأطلق عليها توصيفاً جديداً أسماه (القصيدة غير الموزونة) وهو المبشّر لقصيدة النثر، فكراً وتنظيراً وكتابةً. وكان هذا التوصيف يُمثّل تحوّلاً لافتاً من بين تحوّلاته الشاغلة. كما أصدرَ كتاب (مقدمة للشعر العربي) أوضح فيه أرجحية الشعر العربي على غيره، وقد جاء هذا الكتاب بعد مختاراته الشعرية لشعراء العربية (ديوان الشعر العربي). وفي هذين الكتابين كشفَ عن تحوّله من الانبهار بالشعر الغربي وغير الغربي إلى الانبهار بالشعرية العربية بصورتين: خاصة وعامة. ومن تحوّلات الفنية/ الجمالية، كان الإيهام الشكلي العروضي كما جاء في قصيدته الكبيرة (هذا هو إسمي) إذ كتبها بطريقة شكلٍ نثري مع بعض الفواصل البيض بين بداية الشطر وما يليه، حتى ظنَّ البعض من أنها قصيدة نثر، في حين هي قصيدة شعر مدوّرة مكتوبة على بحري (الخفيف والرمل).

من هذا الاستهلال أردتُ الإشارة إلى بعض تحوّلات أدونيس وهي تحوّلات شاغلة، تنظيراً وشعراً وآراءً، لا ينفكّ من ممارستها على طول مسار تجربته الإبداعية وحتى يومنا هذا. وقد كتبتُ عن هذه التحوّلات تفاصيل عدّة في كتابي (تحوّلات أدونيس الشاغلة – محاولة في الإنصات والمتابعة) عام 2015  - منشورات دار ميزوبوتاميا.

(2)

اِستوقفني، كالآخرين، حوارٌ أجراه معه محمد القزّاز في باريس بتاريخ 17/ 3/ 2023 ونُشر على صفحة باِسمه يُديرها شخص بالنيابة عنه. وقد اعتبرتُ بعض ما جاء فيه يمثّل تحوّلاً جديداً من تحولاته الشاغلة، وتحديداً رأيه بالشعراء: الجواهري، أحمد شوقي، مظفر النواب، صلاح جاهين، الذين هم جميعاً شعراء كبار.

يقول أدونيس: 

1 - ما أسميناه (أمير الشعراء) كان تقليدياً جداً ولم يضف للشعر العربي شيئاً على الإطلاق. وإذا قارنت شوقي بصلاح جاهين فستجد أنَّ الأخير هو الأفضل، فصلاح جاهين حتى الآن يُحاورني ويحكي معي، أما شوقي فلا أستطيع أن أقرأهُ أبداً، وأنا أُفضّل صلاح جاهين على أحمد شوقي. صلاح جاهين أفضل الشعراء في مصر وهو أعمق انسانياً وأبعد أفقاً من شوقي.

2 - الجواهري أسميناه (شاعر العرب الأكبر) وليس لدى الجواهري أي شيء جديد على الإطلاق، مظفر النواب أفضل منهُ، لماذا؟ لأنَّ وراء شوقي الآيديولوجية والدين والتراث والشيء نفسه لدى الجواهري.

(3)

آراء أدونيس هذه تستهوي المداخلة والتعارض كثيراً، لأن الإطلاقية الجازمة فيها تُمثل ارتداداً ذوقياً ومعرفياً، والاستغراب هو الذي قاد إلى مثل التوصيف الذي لا يتناسب مع تجربته الرائدة ولا يصح اطلاقه إلّا في هذه الجزئية من الحوار. 

 إنَّ مناقشة أدونيس هنا ستكون من داخل منجزه وتنظيراته. فإذا كان/ شوقي/ تقليدياً جداً، ولم يضف للشعر العربي شيئاً على الإطلاق، ولم يستطع أدونيس قراءته أبداً، إذن كيف تم إصدار كتابهُ عنه (مختارات من شعر شوقي مع مقدمة) منشورات دار العلم للملايين 1982؟

وكيف تم الاختيار إن لم تكن هنالك قراءة؟!  وكيف كُتبت المقدمة إذن..؟!

أما أن يكون صلاح جاهين أفضل شعراء مصر وأفضل من شوقي فهذا استغراب آخر، إذ إنَّ جاهين اشتهر بشعره الشعبي وأدونيس لا يُجيد قراءة الشعر الشعبي المصري كما جاء في كتابه (مقدمة للشعر العربي) إذ يقول:

رغم أنّي لا أعرف عن الشعر الشعبي المصري والعراقي، إلا أنَّ شعر الشاعر الشعبي اللبناني ميشال طراد وألحان الرحابنه وصوت فيروز، هو أهم انجاز شعري/ صوتي في زمننا. فإذا كان لا يعرف الشعر الشعبي المصري، إذن كيف تمت المفاضلة؟!.

أما قوله: ليس لدى الجواهري أيّ شيء جديد على الإطلاق ومظفر النواب أفضل منه، فكيف كانت المفاضله؟ وهو الذي لا يعرف الشعر الشعبي العراقي الذي حاز النواب ريادته التجديدية والتحديثية، وإذا كانت المفاضلة مع شعر النواب الفصيح الذي يعتبره جديداً ضمناً، وليس لدى الجواهري أيّ شيء جديد، فكيف تمت المفاضلة بين الجديد وغير الجديد إذن؟ وما أغرب القول: ليس لدى الجواهري أيّ شيءٍ جديد على الإطلاق! فإنَّ الصمت عن هذا الرأي لهو الأفضل، لأنَّ مناقشته تحتاج استغراقاً طويلاً لا تسعهُ مثل هذه الإشارات.

(4)

إنَّ الجمع بين شوقي والجواهري، بأنهما لم يأتيا بجديد كون الآيديولوجية والدين والتراث وراءهم، فهذا قول يتناقض مع تفاعل أدونيس وإعجابه بالماركسية والشيوعية والدين والتراث. ثمَّ أليس أدونيس هو أكثر الشعراء العرب إبحاراً معرفياً في التراث والدين وتمحيصاً لهما في (الثابت والمتحوّل)؟ وإنَّ الكثير من شعره يقوم على مرتكزات دينيَّة وتراثيَّة، وحتى آيديولوجية بتأثير انتمائه للحزب القومي الاجتماعي السوري، وإعجابه بزعيمه أنطون سعادة الذي كتب عنه شعراً بحساسية آيديولوجية.

(5)

إنَّ آراء أدونيس هذه تستوجب التوضيح اللاحق منه في تفاصيل تقوم على منهجية تحليل كما هو معروف عنه. ومن دون ذلك ستبقى إطلاقية وشفاهية، تتعارض مع ثوابت الشعرية العربية التي يسعى إلى تأصيلها في أكثر من منجز.