قراءةٌ في مفهوم الأيديولوجيا

ثقافة 2023/03/30
...

 حازم رعد


كثيرة هي المفاهيم التي تستعمل في معنى مغاير تماماً لدلالتها الأولى وتعزى أسباب ذلك الى التحولات التي قد تطرأ عليها سواء بتدخل فعل السياسة، أو من خلال التعديلات التي تجري على المفهوم ليوائم ظروف العصر حتى يوظف للدلالة على فكرة معينة، أو من خلال إرادة استعمال المفهوم في معنى مغاير لتثبيت فكرة ما، وإذاعتها بين الناس لتكتسب معنى جديداً من خلال الوضع او التكرار. وأحد تلك المفاهيم هو الايديولوجيا إذ تعرض معناه لتحريف كبير ابتعد به عن دلالته الأصليّة واستخدم في معانٍ لا تمت لتلك الدلالة بأيِّ صلة.


إنَّ الايديولوجيا مصطلح يوناني وهو مؤلف من كلمتين هما «علم الأفكار» وأن أول من استخدم المصطلح هو الفيلسوف والاقتصادي الفرنسي دي تراسي عام 1796 للدلالة على نظام الأفكار وعملية نشوئها وقوانين ضبط الفكر البشري، فكان دي تراسي أول مكتشف للمعنى الأصلي للمفهوم من دون تدخل ذاكرة أي طبقة أو جماعة مهيمنة لتحميله دلالات أخرى تذهب به بعيداً في قراءات مغايرة للاشتقاق الأولي للمصطلح وهو علم تنظيم الأفكار وتقنينها للاستنتاج الصحيح، ولكن كما سيجيء معنا أنَّ المفهوم تعرض لتدخل أخرجه عن معناه الأصلي ووظف في معانٍ أخرى مختلفة. 

فالمفهوم اول الامر لا يحتمل اي معنى من اي لون سوى انه حينما تم ادراجه في ميدان الاشتباك السياسي بدأت التحولات تتسرب إلى دلالته، اخذ المفهوم من السياسة حمولات سلبية.

وحينما نقول إنَّ لفعل السياسة دورا في تحريف معنى الايديولوجيا فذلك جرى من خلال عملية تشويه ممنهجة وحصل في الوقت الذي أحكم فيه نابليون بونابرت سيطرته على السلطة في فرنسا بعد الثورة الفرنسيّة الكبرى التي لها أثر كبير في التغيير على المستويات والأصعدة السياسية والاجتماعية كافة، فحينما تسلم نابليون الحكم في فرنسا وبدأت افعاله وطريقته في الحكم لا تعجب النخب المثقفين والمفكرين الفرنسيين، فحينها أعلنوا رفضهم لتلك الأفعال والسلوكات ووقفوا بالضد منه لثنيه عن كثير من الاخطاء التي أمعن فيها، حاول هو بالمقابل أن يشوه صورتهم في نظر عامة الشعب فأسماهم بالآيديولوجيين تقليلاً من شأنهم، بمعنى أنهم فاقدون للنشاط المفيد ولا نفع يرتجى من ورائهم. وهكذا أخذ المصطلح معنى آخر ارتبط بالذم، وهذه مفارقة عجيبة في تاريخ الثورة الفرنسية، ذلك الحراك الذي قام من اجل تحقيق الحرية والعدالة والمساواة وتحرير الشعوب من ربقة الاستبداد تمخضت عنها أكبر حملات غزو واستعمار للشعوب وهي تلك التي شنها نابليون والتي وصلت الى دولة الشام في الشرق المسلم، والمفارقة الاكثر غرابة كيف أن مفهوم مستقر المعنى «علم الأفكار» بدا في ذهن الناس وكأنّه خطيئة، وعليه من حيث المبدأ أن المصطلح خلواً من كلّ معنى سلبي بعد، إذا فهمنا أنّه متكون من مقطعين «علم الأفكار» عدا ما قامت به حكومة نابليون من عملية اخلال بالمفهوم وقلب لمحتواه بالشكل الذي أساء إليه.

وما زاد الأمر سوءًا هو مجيء كارل ماركس واستعمل المصطلح بذات الدلالة الذميمة التي أسلفنا ذكرها وحمله دلالة ليست هي المعنى الأصل والمباشر للمصطلح، إذ عرف الايديولوجيا بالوعي الزائف واعتبرها عملية قلب لصورة الواقع وتوظيف الأفكار سلبية تدعم السلطة المهيمنة «الرسمالية» في قمع طبقة العمال والسيطرة على رؤوس الأموال واستغلال الشعوب الفقيرة من أجل كسب المال والحظوة بالنفوذ، ويمكن اعتبار كارل ماركس هو مكتشف المعنى الآخر «المؤول» للمفهوم حيث ربطه بمعنى مختلف عن معناه الأصلي ووظفه بعمل غير تنظيم التفكير البشري. 

بعد ذلك وبعيداً عن كل القراءات المختلفة للمفهوم تعني الايديولوجيا مجموعة من الأفكار التي تعبر عن نشاط وغايات عملية يعتقد أصحابها بأنّها تعكس أهداف فئة أو جماعة من الناس في مرحلة تاريخية محددة وتتوفر هذه البنية على الوسائل الضرورية للنشاط العملي.

تكمن أهمية الايديولوجيا في الواقع الاجتماعي في أن لها القدرة الكبيرة على الاقناع، نظراً لما تعد به من أهداف مثالية كالسعادة والرفاه والحكم الرشيد وهذه القيم تقدمها الأنظمة الايديولوجيا على أنّها تباشير للشعب سينعم بها طالما أنّه انضم لتلك العقيدة وآمن بها وعمل من أجل ارسائها. 

إذن فالقول بأنَّ الايديولوجيا وعي زائف هو قول نسبي “بالنسبة لمن يريد لي عنق المصطلح وتطويعه بما يناسب فكرته” ومع ذلك، فإن هذا المعنى لا ينفي قدرتها في التأثير وفاعليتها العملية في الواقع ولا ينفي اعتقاد من يرون صحتها وكذلك لا ينفي اخفاق الايديولوجيا إذا ما تهرّأت عناصر قوتها.

تتوفر الايديولوجيا على فاعليتين هما “التجاوز والبناء” فمصلحة الايديولوجيا تقتضي أن تنهي حقبة كاملة من الصراع والمواجهة مع أي اتجاه أو عقيدة تجدها خصمها الحقيقي أو المفتعل في هذه المرحلة، وهذا السلوك “تمثيل لسياستها لمرحلة ما” ثم تقلب صفحة بتمامها هي ورجالاتها ومفاهيمها وشعاراتها، تنهيها وتسدل عليها الستار.

ومن ثم تعقد العزم في الاعداد لمرحلة ثانية “تمثل مشروعها الجديد” حقبة عمل أخرى اقتضاها الاشتغال الايديولوجي أو ضرورة الصراع الدائر، تحرك فيها كل أدواتها المحتملة وتوظف كل بدائلها التي كانت قد اعدتها “الأفكار والشعارات والوسائل والإعلام والنشطاء والأحلام التي تعد فيها الجماهير” وتشتغل خطوة فخطوة على تحقيق الاهداف المتوخاة، ومع ذلك يمكن لها أن تبقي من صور وشعارات من الحقبة السابقة التي قضت عليها لكسب عاطفة الجماهير، فالتاريخ أداة جذب مهمة في الايديولوجيا فهي تتعكز على التاريخ وصور النضال والكفاح الذي قام به الافذاذ لإعلاء الكلمة وتحقيق الأهداف.. وهنا ترتبط وظيفة الايديولوجيا بالأنظمة السائدة المسيطرة التي توظف كل شيء لإنجاز مهامها وانتاج سلطة ونفوذ

مهيمنين.