القراءة والخيال.. المشاهدة والإدراك
سلام رحمن التميمي
حين يدرس أصحاب الظاهراتيَّة القراءة من منظور الذات التي تقصد عالماً أو موضوعاً روائياً، يزعمون أن القارئ يعطي هذه الموضوعات في شكل حدسي، والحدس يعني كما يوحي بذلك النظر أو التأمل، لذا يعتمد أصحاب المذاهب النظرية في أغلب الأحيان على أقيسة مستمدة من الادراك أو الخيال. وأكثر هذه الأقيسة شيوعاً القياس الخاص بالمشاهد، إذ يقول ميرلو بونتي على سبيل المثال إن وظيفة الرواية ليست تحويل الفكرة إلى ثيمة بطريقة الفلسفة التقليديَّة، بل جعلها تظهر إلى الوجود أمامنا وكأنها شيء معين.
فهو يرى أن الطريقة الوحيدة للتعبير عن العالم في الرواية إنما يكون بالإشارة إليه في القصص. أما سارتر فيذهب إلى أبعد من ذلك، إذ يؤكد: (إننا وفي أثناء القراءة كما في المسرح، نكون في حضور عالم معين). وبعبارة أدق (إنَّ قراءة الرواية يعني اتخاذ موقف عام للوعي. وهذا الموقف أشبه بموقف المشاهد).
تنطوي هذه الأقيسة بخاصة على أن تقديم أسلوب الموضوع الأدبي إنما هو مشهد أو رؤية، من جهة، وتنطوي من جهة أخرى على أنَّ القراءة إدراكٌ سلبيٌّ لمجموعة من الصور الذهنية التي تؤلف مثل هذه الرواية.
وهذا يتفق ورأي بلانشو إذ يقول إن كبار الكُتاب (فنانون لأنهم يجدون مكافئاً - في الشكل أو الصورة الذهنية أو القص أو الكلمات - يجعلنا نشارك في رؤية شبيهة برؤيتهم). \ويرى بوليه أن الأرضية الأمامية لهذا المشهد أو الرؤية يشغلها وعي العمل. أما القارئ فيكتفي بالتدوين السلبي، ويقتصر على مشاهدة العمل وهو يقوم بعمله. وهكذا يحصل لديّ انطباع في أغلب الأحيان وأنا أقرأ إنني أشاهد حدثاً.
يرى بلانشو هذه السلبية بوصفها انسحاب المرء من العالم الاعتيادي والسقوط في حالة من الاعجاب يظهر موضوعها حقيقياً، ومع ذلك لا يمت إلى الواقع الملموس: (إن ما يعجبنا يهجر العالم، وينسحب إلى مكان خارج العالم ويسحبنا معه، وهو لا يكشف عن نفسه لنا ولكنه يثبت وجوده في حضور غريب عن الحضور الزماني والفضائي).
إنَّ مثل هذا التعريف يوحي بحالة من الوعي تشبه الخيال. نقصد فيها موضوعاً له حضور كامل للوعي، ولكنه غريب عن الوضع الفضائي - الزماني عندنا. ويبدو أن الاستنتاجات التي توصل إليها سارتر في كتابه عن الصورة الذهنية والتخيل بعنوان الخيالي تؤيد هذه الفرضيَّة.
أولاً، نستطيع تفسير الضديد للسمة الروائية - وهو أننا نعد الشيء الروائي كأنه يشير إلى عالم حقيقي - من خلال أنموذج للقراءة يستند إلى الخيال. يُعَرف سارتر أسلوب خلق الصور الذهنية أنه فعل يحاول أن يجسّم موضوعاً غائباً أو لا وجود له، عن طريق محتوى مادي أو نفسي لا يقدم في مثل هذه الهيئة بل في هيئة مشابهة للموضوع الذي نهدف إليه.
نستنتج من هذا التعريف إذن أن وعي خلق الصور الذهنية يفترض موضوعه بوصفه لاشيء لا وجود له، غائب، له وجود في مكان آخر أو أنه قد أُجل، وهذا قريب جداً مما يفعله النتاج الروائي. ويعد الموضوع الذي يقصده المرء على نحو فعال في كلتا الحالتين صورة ممثلة داخل عين العقل، لذا يمكن عد الموضوع مدلولاً لشيء يتجاوز ذاته، فنستطيع قراءة النتاج الروائي على أنه يشير إلى عالم حقيقي كما أننا نعتقد أن الصورة الذهنية التي نكونها لصديق تستند إلى الوجود الحقيقي لذلك الصديق.
ويستطيع المرء أن يزعم أن الثبوت الظاهري للعالم الروائي، وحقيقة أن العمل يتغير بطريقة ما بمرور الزمن ومع ذلك يظل منسجماً مع أحدث تقويم نقوم به لذلك العمل، يمكن تفسيره باللجوء إلى الطريقة التي يؤلف بها الوعي الصور
الذهنية.
وكما يقول سارتر فإن الطبيعة الأنموذجية - النيابية للصور الذهنية تنتج دائماً من قصد خلق الصور الذهنية؛ لذا لا يمكن لها أبداً أن تتفوق على الوعي، إن الموضوع أو الصورة الذهنية لا يمكن أبداً أن تتفوق على وعي المرء إيّاها. وهكذا تبدو جميع الصور الذهنية المقصودة في القراءة كاملة متكاملة في لحظة معينة، ومع ذلك تظل قابلة للتنقيح أو إعادة النظر فيها عن طريق قراءة أخرى.
بيد أن فكرة القراءة على أنها خلق الصور الذهنية لا تنسجم مع ما قلناه آنفاً.
إذ يصعب علينا أن نوفق بين فكرة القارئ الإيجابية هذه والفكرة الأولى التي تقول إنه مشاهد سلبي. يقول سارتر إذا كان الوعي الذات لقصد خلق الصور الذهنية هو الذي يعوض عن سمة اللاشيء للموضوع الذي يتخيله المرء فمن الصعب علينا أن نزعم أن الذات تمحو نفسها في القراءة. إن الجانب الإيجابي لوعي خلق الصور الذهنية ينسجم مع اصرار بلانشو على أن القراءة ينبغي أن تكون أكثر من النظر من الخارج، من وراء زجاج مقدمة المخزن لادراك ما يجري في عالم غريب. ولكنه لا يتفق والصورة المجازية التي يقدمها سارتر للمشاهد الذي يرى، وهو في المسرح، الستارة تُرفع. ومن الصعب أيضاً تفسير وظيفة النص إذا عرّف المرء القراءة على أساس الصور الذهنية، فالموضوع الذي يستند إلى النص يختلف عن الصورة الذهنية التي قد يكون لها وجود كلها، أو قد لا يكون لها وجود، فموضوع النص يتألف زمنياً جزءاً بعد جزء، ولا يوجد كلياً بجميع اجزائه. فالقراءة عملية زمنية والصورة الذهنية بنية تزامنية.
القراءة إذن في بعض أوجهها تشبه الخيال وتبدو في أوجهها الاخرى أقرب إلى عملية حل الشفرة منها إلى التأمل، إذ يقول سارتر: (إن الكلمات تؤدي إلى الصور الذهنية حين نحلم بها أحلام يقظة، ولكن حين اقرأ لا أحلم أحلام يقظة، بل أحل الرموز). ثم يتحدث سارتر على أساس المعطيات التجريبية فيقول إن النتاج لا يبدو صورة ذهنية إلا حين يتوقف القارئ لحظة ليتأمل الأجزاء السابقة من الكتاب، تظهر الصورة الذهنية في أثناء التوقف أو التعطيل في القراءة.
أما فيما تبقى من الوقت فيكون القارئ منهمكاً في الفهم التدريجي، وهذه المرحلة نوع من التلمذة. وأقرب شبه لهذه التلمذة ليس خلق الصور الذهنية، بل الادراك.
يختلف الادراك عن خلق الصور الذهنية في أنه عملية سلبية نسبياً، تستند إلى الاتصال بالكيان الحاضر الذي يفترض الادراك وجوده سلفاً.
ثم إن الادراك يحدث في إطار زمني، يظهر الموضوع في الادراك على هيئة مجموعة من الاوجه أو الانعكاسات، و لا بد للمرء أن يتعلم المواضيع، وهذا يعني مضاعفة أوجه النظر إليها.
وأهم من ذلك أن الموضوع الذي يدركه المرء يفوق وعي ذلك الشخص الذي يقوم بالادراك، ومهما كانت أوجه الموضوع التي ندركها في لحظة معينة، فنحن نعلم أن لهذا الموضوع وجوهاً احتياطية لا محدودة من العلاقات الممكنة، بمواضيع أخرى، وبعناصر الموضوع نفسه. أن هذه العلاقات اللامحدودة هي التي تؤلف جوهر الشيء، فالموجود في كل لحظة يفوق على نحو لا محدود ما نستطيع رؤيته.
يفسّر أنموذج القراءة الادراكي إذن تفسيراً دقيقاً لماذا يفلت العمل الأدبي دائماً من محاولاتنا فهمه فهماً نهائياً حاسماً. ويستطيع الأنموذج المعتمد على الادراك في الوقت ذاته أن يفسّر عدم شفافية النص الظاهرية – أو جوهريته كما يقول سارتر: (إذ نعده شيئاً أكثر من كونه دالاً شفافاً).
بيد أن الشيء الوحيد المرئي الملموس الذي تنطوي عليه القراءة إنما هو على ما يبدو - الكتاب في هيئته المادية - أي الرموز المرسومة على الصفحة. وهذه، كما يقول سارتر، ليست الشيء الذي ندركه في أثناء القراءة: (هذه العلامات لم تعد ذات أهمية لي، فلم أعد أدركها، بل انني قد اتخذت موقفاً معيناً للوعي يهدف - من خلال هذه العلامات - إلى موضوع أبعد).
وهذا الموضوع الآخر هو الموضوع أو العالم الروائي الذي لا يمكن أن نقول عنه في الحقيقة اننا ندركه، إذ اننا نفتقر إلى أي أساس ما أدري للادراك؛ بل إن هذا الموضوع كما رأينا، يشبه في وجوع كثيرة الصورة الذهنيّة.
لم يبقَ لنا سوى فكرة واحدة للقراءة تستفيد من الادراك والخيال ولكنها لا تشبه أياً منهما تماماً. وعلى هذا الأساس فإنَّ المواضيع المقصودة أثناء التجربة الأدبية تبدو أنها أشياء تكشف معالمها لنا تدريجياً عن طريق السرد، كما هي الحال في الموضوع الذي يدركه المرء، إنّها صور ذهنية يحدد المرء شكلها تحديداً كاملاً فريداً.
وبعبارة أخرى أن الموضوع الروائي في أية لحظة يتحدد ويتفق وشعورنا به، ومع ذلك يخضع للتغير مع الزمن وطبقاً لفهم النص تدريجياً. وتبدو القراءة أنها نظرة داخلية وتوسع لا نهاية له للوعي نفهم فيه شيئاً فشيئاً أجزاء من العلاقات اللانهائية التي يحتويها النتاج الأدبي.
أخبار اليوم
كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني تشيد بالتحول الإيجابي الذي تشهده شبكة الإعلام
2024/11/25 الثانية والثالثة