الاحتجاج الاجتماعي والمعارضة السياسيَّة

آراء 2023/04/03
...

   ساطع راجي


تفضل أي سلطة سياسية التعامل مع معارضة واضحة، أحزاب وحركات وشخصيات، فالسلطة ستكون قادرة بطريقة أو أخرى على جذب قوى المعارضة إلى ميدانها، وتحويلها إلى شبيهة بها وتفرض عليها حدودا وطرقا للعمل وقد تجعل منها شريكة في السلطة أو تمحوها من الوجود، وتعتبر قوى السلطة في أي دولة أن ظهور عشرات الاحزاب المعارضة، مهما كانت قوتها أهون من ظهور حالة احتجاج اجتماعي واحدة.


إن فشل الدولة بالمعنى المؤسسي في ملاحقة ومعالجة التطورات الاجتماعية هو ما يؤدي إلى حالة الاحتجاج التي قد تستغل سياسيا في المواجهة بين قوى المعارضة والسلطة، وقد لا تستغل، لكنها تجرح وربما تمزق جسد الدولة لزمن طويل جدا، وتترك ندوبًا في المجتمع عصية على المداواة، ولذلك ستكون مبررا دائما للعنف والكراهية والانتقام وأيضا دافعا للبحث عن العدالة.

لا تريد القوى السياسية (الحاكمة والمعارضة) الاصغاء، فعليا إلى الدوي الناجم عن الانهيار الاجتماعي الذي يدفع للاحتجاج، وتحاول الحكومات دائما التعامل مع الاحتجاج الاجتماعي باعتباره عملية تفجير متعمد لقنبلة صغيرة، وليس هزة أرضية لها سياقها الواقعي وتفسيرها العلمي، فالحكومات تستسهل البحث عن متآمر ومعاقبته أو تشويهه أو حتى كسبه، بينما ترفض النظر إلى الوقائع التي تمنح المتآمر (فيما لو كان موجودا) عناصر قوته، في حين تريد قوى المعارضة المنظمة تقليديا الايحاء بقدرتها على التعامل السريع مع الوقائع الزلزالية للمجتمع، بمجرد وصولها إلى السلطة ومحو من كان يحكم حتى لو لم تمتلك أي  خطة عمل.

إن مجموع الثورات الحقيقية والمزيفة، التي شهدها العراق منذ تأسيس دولته الحديثة، كانت حالات استغلال للاحتجاج الاجتماعي، الذي كان يظهر بصيغ مختلفة تكون في كثير من الاحيان متناثرة وهشّة (تمردات فلاحيَّة وعمالية وطائفية وقومية)، لكنها بمجملها هي نتيجة لفشل الدولة في التعامل مع التطورات الاجتماعية، مثل زيادة السكان، ارتفاع مستوى التعليم، إدارة الثروة النفطية، المتغيرات الطبيعية، التكنولوجيا، التحولات الثقافية، الصراعات الدولية..، وغالبا ما تعرضت عمليات الاحتجاج للاستغلال في الصراع على السلطة.

لا تريد قوى العمل السياسي مواجهة التطورات المشار إليها فهي تفتقد لمنظومات التحليل والتفكير والتخطيط داخل هياكلها الهشة والانتهازية، وهي تريد مجتمعا ملتصقا بها وخاضعا لها ومنسجما مع اهدافها وتصوراتها ومصالحها، هي لا تريد التفكير أبدا في الزيادة السكانية السنوية في العراق التي تصل إلى مليون نسمة تقريبا، ولا بمئات الآلاف الذين يدخلون سوق العمل سنويا دون توفر الوظائف الحقيقية، ولا بالعالم الذي ينفتح تقنيا ويطرح طموحات وتحديات لكل فرد، ولا تريد القوى السياسية، حاكمة ومعارضة، التشكيك في مسار التعليم الراهن وخاصة العالي منه، لا في رصانته ولا في جدواه ولا في مستقبله ولا في آليات إستثماره، وهو العامل الذي كان وراء اندلاع الاحتجاجات الاجتماعية الكبرى ذات الطابع الشبابي والطلابي في ستينيات القرن الماضي في الغرب كما كان شرارة الاحتجاجات العراقية في

2019. 

القوى السياسية المنتظمة ترى في الاحتجاج الاجتماعي مجرد خطر يهدد سلطتها، وهي تسعى دائما إلى تقزيمه عبر دفعه للتهيكل حزبيا أو تقديم شخصيات رمزية، ويستغرب القادة الحزبيون من عدم وجود تنظيم أو قيادات محددة باسم المحتجين، بينما جوهر الاحتجاج هو قضايا مطلبية والمحتجون بدوافع اجتماعية ليسوا منافسين حزبيين ولا يريدون السلطة بالضرورة، وفي التجارب العالمية لم تفرز حركة الاحتجاج الشبابي الغربية، خلال الستينيات تنظيمات حزبية جديدة لكنها احدثت تحولات تشريعية وسياسية وتسببت في تغيير نمط التفكير الحزبي، بل ساهمت في تعديل النظم السياسية من رأسمالية ليبرالية إلى نظم دولة الرعاية، رغم بقاء  الاحزاب القديمة نفسها، واحداث هذا النمط من التغييرات ذات الأثر الاجتماعي هي أهداف الاحتجاج الحقيقية والكامنة، التي قد يعبر عنها الغاضبون بوسائل افتزازية، أو يستغلها الحزبيون والانتهازيون في تصفية حساباتهم.

إن قوى سياسية ترفض التعامل مع الوقائع الاجتماعية، إنما تعرض بلادها ونفسها لسيل من المغامرات الدموية المجنونة، التي تتصاعد فرصها في وقت استرخاء السلطة، خصوصا عندما تخفت أصوات الاحتجاج بسبب التعب أو القمع أو الحيل السياسية.